وعلى ذلك الاستدراج والإملاء والاستهزاء منه تعالى كما في قوله:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[٤٦] والمعنى في ذلك كله إمهال الله للعبد الجاحد وتمكينه من أعراض الدنيا حتى يغتر ويؤخذ بذنبه، لذلك قيل "من وسع عليه في دنياه من أهل الفسق ولم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله "، قال الإمام الراغب في كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة": "وهذه ألفاظ لولا أن الباري تعالى أطلقها في مواضع مخصوصة قاصداً بها معاني صحيحة لما تجاسر بشر عرف الله تعالى أن يخطر ذلك بباله فضلا عن أن يجريه في مقاله وإن قصد بها المعنى الصحيح تنزيها له وتعظيماً فيجب أن تتلى في القرآن حيثما وردت ولا يتعدى بها "[٤٧] .
الفصل الثالث
ضابط الحيل الجائزة وغير الجائزة:
قبل أن نتطرق إلى هذا الضابط، ننظر في أصل معنى الحيلة لغة فإنها سلوك طريق يفضي إلى المقصود على وجه فيه حذق ومهارة وجودة نظر، ولا نستطيع أن نحرمها بإطلاق حينئذ ولا أن نحلها بإطلاق ولا أن نحمدها بإطلاق ولا أن نذمها بإطلاق، لذا وجب النظر في ضابط عام يميز بين ما يجوز من الحيل في نظر الشارع وما لا يجوز فنقول:
ضابط الحيل الجائزة: كل طريق مشروع يترتب على سلوكه تحقيق مقاصد الشارع من فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه وإقامة الحق وقمع الباطل فهذا جائز مشروع.
وضابط الحيل غير الجائزة: كل طريق يترتب عليه إبطال مقاصد الشارع أو العبث بها من إسقاط للواجبات وارتكاب للمحرمات وقلب الحق باطلا والباطل حقا فهذا محظور يذم فاعله ومعلمه.
وبين النوعين الجائز وغير الجائز من الفرق ما بين النور والظلام والحق والباطل والعدل والظلم والبر والإثم.