للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والشاهد من الحديث لما نحن بصدده أن نبي الله سليمان عليه السلام استخرج الحق في هذه الحادثة بحيلة لطيفة أظهرت ما في نفس الأمر، حيث دعا بالسكين ليشقه بينهما ظاهراً، ولم يعزم على ذلك في الباطن، وإنما أراد كشف الحقيقة، فتوصل إلى مراده وتيقن أن الولد للصغرى لجزعها عليه، وعظيم شفقتها، ولم يلتفت إلى قولها أنه ابن للكبرى، لأنه علم أنها آثرت حياته، لأنه ابنها رحمة به وشفقة عليه، ولم تأبه الكبرى به ولم تتأثر من كلامه، قال القرطبي رحمه الله: "وفي الحديث من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة وممارسة أحوال الخلق، وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورانية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " [١٢٦] .

٢- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في صلاته فلينصرف، فإن كان في صلاة جماعة فليأخذ بأنفه ولينصرف " [١٢٧] .

قلت: هذا الحديث يدل على أن خروج الريح من الدبر في الصلاة مفسد لها، وأن المصلي إذا خرج منه ريح يجب عليه قطع الصلاة فورا، ويحرم عليه الاستمرار فيها، لكونه على غير طهارة، ولا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ.

ولما كان خروج الريح أمراً يستحى منه، ويعرض صاحبه لغمز الناس وقالتهم، لاسيما إذا حصل منه أثناء صلاة الجماعة، لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مخلص حسن وحيلة لطيفة، وهو أن ينصرف من الصلاة واضعاً يده على أنفه ليوهم الناس أن به رعافا ومن أجله خرج من الصلاة، وذلك حتى لا يأخذه الخجل ويسول له الشيطان المضي في صلاته استحياء من الناس فيأثم مع بطلان صلاته.

ولا يدخل هذا في باب الكذب أو الرياء، وإنما هو من باب الأدب في ستر العورة، وإخفاء القبيح، والتورية عنه بأحسن المعاريض الفعلية وألطفها، وحفظ عرضه من الناس والسلامة من قالتهم.