إن شاباً بدأ حياته بطلب العلم فلازم علماء بلده ثم رحل إلى علماء الأمصار في عنفوان شبابه [٨٦] ليأخذ عنهم ما لم يجده عند علماء بلده، وعايش أحداث عصره الجسام لجدير بتكوين شخصية علمية فذة، وهو ما يعلمه كل باحث في حياة هذا الإمام فألقابه العلمية تنبض بشهادة العلماء له بالمكانة الرفيعة، وتصانيفه العديدة خير شاهد على ما نقول، فهو الإمام الحافظ، محدث الإسلام، لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا ذكره له وبينه، ولا يسأل عن رجل- من أهل العلم- إلا قال هو فلان بن فلان [٨٧] ، ذكر أنه يحفظ مائة ألف حديث [٨٨] ، وفضل في حفظه وعلمه على أبي موسى المديني، والدارقطني [٨٩] .
بعض صفاته:
وصف المقدسي بالحفظ والتصنيف [٩٠] وهذا يدل على ذكائه، وألمعيته، كما وصف بمحاربة البدعة وأهلها، حتى تألب عليه المبتدعون وأخذت خطوطهم على إهدار دمه [٩١] ، فلم يرعه ذلك ولم يتردد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان لا يرى منكراً إلا غيره بيده أو بلسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم [٩٢] ، وهذا يدل على شجاعته وقوة شخصيته ومع هذا كان سمحاً متواضعاً يجتمع عليه الناس إجلالاً له، وكان كريماً لا يدخر شيئاً، وقيل: كان يخرج في الليل بقفات الدقيق، فإذا فتحوا ترك ما معه ومضى لئلا يعرف، وربما كان عليه ثوب مرقع [٩٣] . وهذا يدل على أنه احتسب ماله لله عز وجل كما احتسب علمه وعمله ومع هذه الجولات في ساحات الخير والفضيلة كان عابداً، صواماً فكان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما لقن الحديث، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة، بالفاتحة والمعوذتين، إلى قبيل الظهر فينام نومة فيصلي الظهر، ويشتغل بالتسميع أو النسخ إلى المغرب فيفطر إن كان صائما، ويصلي إلى العشاء ثم ينام إلى نصف الليل ثم يصلي إلى الفجر [٩٤] .