والنقاد يجمعون على استهجان مثل هذا الشعر مع أنه أشد إغراقا في الكذب: فالنطف التي لم تخلق لا تخاف صاحب أبي نواس، وربما حتى لو خلقت، والرشفات من فم المتنبي حاشا أن تكون أحلى (من التوحيد) وفي بيته هذا قبح من وجهين: تغزله بنفسه، واعتداؤه القبيح على مثل هذا الجناب العظيم (١) .. وكذلك فقاح بن نمير لا يمكن في أي يوم من الأيام أن تذيب الحديد أو خبثه مهما كان شأن بني نمير مع صاحبهم.
فكل هذا مستقبح مستهجن مع أنه من أكذب ما قيل من الشعر.. بل قالوا في قول المهلهل: "فلولا الريح أسمع من بحجر". إنه أكذب بيت قالته العرب.
ولكن لعلك تستعذب معي مثل قول كثير:
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها
أو قول جرير في الفخر:
حسبت الناس كلهم غضاباً
إذا غضبت عليك بنو تميم
أو قول المتنبي في مطلع قصيدة:
وتأتي على قدر الكرم المكارم
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
أو قول عنترة العبسي:
مني وبيض الهند تقطر من دمي
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فوددت تقبيل السيوف لأنها
فهل تجد في هذه الأبيات شيئاً من الصور الكاذبة المستحيلة؟. ومع ذلك فهي من أعذب الشعر وأجوده حتى لقد قيل في قول كثير عزة:
من الخفرات البيض ود جليسها
.....................................
إنه أرق شعر قيل في النسيب.
ولو تأملت هذا المقام لوجدت أن حسن الشعر يتجلى في أمرين:
الأمر الأول: صدق المعنى الذي يذكره في البيت أو صدق الشعور الذي يعبر عنه.
والأمر الثاني: جمال الصورة التعبيرية التي يختارها لأداء ذلك المعنى وإبراز ذلك الشعور..