فمثلاً أبيات كثير عزة: تصور لنا شعوراً يختلج في نفس كثير تجاه حبيبته، فهو يحبها حباً شديداً ويكاد يهلك شوقاً لمرآها.. فهو يصور كيف تكون نفسه في سعادة عندما يهم بزيارتها والرحيل إلى ديارها: كأن الأرض تطوى له من شدة رغبته في الوصول إليها.. حتى إذا اجتمع بها ودارت بينهما الأحاديث تلذذ بكل ما تقصه عليه، فما تنتهي من أحدوثة إلا تمنى لو تعيدها مرات ومرات.
ومثل هذه الإحساسات يعرفها ويشعر بها كل محب مع من يحب، وما في هذه الأبيات إذا معنى مستحيل.. بل صدق إحساس أحسن الشاعر التعبير عنه.
وقول الآخر:
حسبت الناس كلهم غضابا
إذا غضب عليك بنو تميم
هو كذلك في غاية الروعة في تصوير الحالة النفسية التي يغرق فيها من غضبت عليه بنو تميم، فإن الأرض تضيق به ووجوه الناس تتغير عليه، حتى يتخيل كل إنسان يمر به حانقاً عليه، وفيه تصوير بديع لسطوة هؤلاء القوم وعظم مكانتهم وامتداد نفوذهم، ولا يضاهيه في معناه إلا قول نابغة بني ذبيان لما غضب عليه النعمان ففر منه هائماً على وجهه:
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فإنك كالليل الذي هو مدركي
ولعمري إن بيت النابغة أكثر نجاحاً في تصوير هذه الحالة النفسية من القلق والرهبة باختياره لكمتي (الليل) و (مدركي) فالليل لا يمكن الفرار منه فهو مدركه أنى ذهب..
وأما بيت المتنبي (علي قدر...) إذا جردت معناه من شعره فلا تكاد تجد أي صورة بيانية، بل هو مجرد تعبير قوي عن حقيقة واقعة من حقائق الحياة، والحسن كل الحسن فيه في الإطار الشعري الذي صاغ المعنى به، وغالب أبيات المتنبي من هذا القبيل.. وما أخالك إذا سمعت مثل قوله:
فمن العجز أن تموت جبانا
وإذا لم يكن من الموت بد
إلا هاتفا بملء فيك: صدق.
وأبيات عنترة كذلك: صورة ملخصها: معركة محتدمة ازدحمت فيها الخيول وبرقت الأسنة ولمعت السيوف حول الشاعر تتناهشه وتنهل من دمه.