ثم نجد من المعاصرين من أصحاب المناهج العلميَّة من يقول: "وفي غير العراق كان الاشتغال بالعربية حقا جدّ ضئيل، فبينما كانت في البصرة والكوفة مدرستان خاصتان بالنَّحو، وحذت حذوهما بعد ذلك بغداد بمدرستها الَّتي نزعت إلى الجمع والتّوفيق بين المدرستين لم تقم بالمدينة- مثلاً- علوم اللُّغة على أساس وطيد".
ويقول: "ويجوز لنا بما تقدم أن نفترض أنّ اللغة العربية في المدينة لم تحظ بعناية خاصة".
ويقول: "إنَّ النَّحو وعلم اللَّغة لم يجدا بالمدينة تربة خصيبة".
ويقوله آخر: "فالبصرة أوّل مدينة عنيت بالنَّحو واللُّغة".
وبعد هذه الأحكام التي تصفى أهل المدينة بالضعف في العربية والبعد عن الاشتغال بفنونها، كاللًّغة والنَّحو ورواية الشِّعر نجد من يخالف هذه الآراء من القدماء، وهو ابن برهان النَّحوي (٤٥٦ هـ) إذ يقول: "النَّحويون جنس تحته ثلاثة أنواع: مدنيّون وكوفيّون وبصريّون".
ويقول أحد المعاصرين: "لو أنَّ منصفاً تتبع أصول النّحو الأولى لوجد أنّها نبتت في المدينة وظلت تنمو شيئا فشيئاً".
فيتبيّن بعد هذا أنّ نشأة العربية لغة ونحواً لم تزل يكتنفها شيء من الغموض، وأنّ ثمة حاجة للكشف عن رجالات هذا العلم في المدينة.
ومن هنا جاءت فكرة هذا البحث الَّذي رجوت أن أكشف من خلاله عن نشأة الدراسات اللُّغويَّة في المدينة، وأتعرف على أعلامه في هذه المدينة المباركة في القرنين الأول والثاني، وجعلته بعنوان "أصول علم العربية في المدينة"فجاء في أربعة فصول:
الأول: عوامل نشأة الدَّرس اللًّغوي.
والثاني: منشئ علم العربيَّة.
والثالث: من أعلام الدَّرس اللغوي في المدينة في القرنين الأول والثاني.
والرابع: من مظاهر الدّرس اللُّغوي في المدينة.
ولم أشَأ التَّفريق بين النَّحو واللُّغة، أو بين النَّحويين واللُغويين، فذاك متعذّر، لأنّ علوم العربيَّة متداخلة في القرنين الأول والثاني، قبل أن تنفصل فيما بعد.