ثم يقول:"ومن الطبيعي أن يكون القرآن - أيضاً - سبب ظهور علم النحو، لأن النحو دراسة للتركيب اللغوي، ورصد للظواهر الإعرابية الناجمة عن القرائن اللفظية، التي سميت فيما بعد بالعوامل النحوية، وقراءة القرآن تعتمد اعتمادا بارزاً على تغير أواخر الكلمات؛ أي: الإعراب".
وإلى مثل هذا يذهب كثير من الباحثين المعاصرين.
نعم؛ لقد بدأت العلاقة بين العربية بمفهومها العام والقرآن مبكرة في المدينة على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تفسيره بعض الآيات المشكلة، والألفاظ الغريبة، وفي حثه على تدبر ألفاظ القرآن ومعانيه والتماس غرائبه.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه "(١) .
والمراد بالإعراب - هنا - معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به الإِعراب المصطلح عليه عند النحاة، وهو ما يقابل اللحن.
وقد تزايدت الحاجة إلى تفسير غريبي القرآن والحديث مع مرور الأيام، وأكثر الصَّحابة ثم التَّابعون من الاحتجاج لغريب القرآن ومشكله بالشِّعر كابن عباس، الَّذي يُعد صنيعه نواة للمعجم العربي، كما سيأتي بيانه.
واقتضى ذلك من الصَّحابة التَّزوُّد باللّغة، وتأمل دقائقها، والإلمام بلغات القبائل، ليتمكَّنوا من تفسير غريب القرآن، وكان بعضهم يتحرَّج من الخوض في تفسير غرائب القرآن وَرَعاً، أو لعدم التَمكُّن في اللُّغة، وكان عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - يأمر بألا يقرئ القرآن إلا عالم باللُّغة - كما تقدم.
وإذا كان أمر القراءة يقتضي العلم باللُّغة فإنَّ أمر تفسير الغريب وكشف المشكل أدعى إلى ذلك، ولهذا أثر عن مجاهد قوله:"لا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلَّم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب".