وظاهرٌ ما في هذه النصوص من مبالغات، وهي لا تخلو من الظلم والحيف لهذه المدينة المباركة، وفيها غمط لما قدمه أبناؤها لعلوم العربية نحوا ومعجماً ورواية، وقد تبيّن لنا من خلال هذا البحث أنّ نواة العربية بذرت في المدينة منذ زمن الخلفاء الراشدين، وأن النحو العربي، كان ثمرة لجهود طائفة من المعنيين باللغة في تلك المدينة تمثلت في تأملهم اللُّغة والنظر في مفرداتها وفي تراكيبها ودقائقها، فلعلي بن أبي طالب ومن قبله عمر بن الخطاب إسهامات لا تنكر في تنقية اللغة ودفع آفة اللحن عنها وتوجيه عناية النابهين لضبطها، واستخلاص مسائلها، ووضع اللبنات الأولى لتقعيدها، ولابن عباس الفضل في وضع الأساس المتين لعلم الدلالة والمعجم العربيّ، وما يتصل بذلك من العناية بالغريب في القرآن بخاصة.
ويأتي من بعد هؤلاء الأعلام طائفة من اللغويين والنحاة المتميزين من أهل المدينة في القرنين، الأول والثاني، كعبد الرحمن بن هرمز الذي عزت إليه بعض الروايات نشأة النحو العربيّ، ومحمد بن كعب القرظيّ، ومسلم بن جندب الهذليّ، وأبان بن تغلب الجُريريّ، وعبد العزيز القارئ الملقب ببَشْكُسْت، وعلى الجمل، وعيسى بن يزيد بن دأب اللّيثيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدويّ، ومروان بن سعيد المهلبيّ، وغيرهم.
ويبدو أن ابن برهان النحوي (٤٥٦ هـ) بلغه خبر لغوي المدينة ونحوييها، أو خبر بعضهم، وعرف قدرهم، فكان أكثر إنصافاً؛إذ قال:"النحويون جنس تحته ثلاثة أنواع: مدنيون، كوفيون، بصريون ".
فانظر كيف بدأ بالمدنيين لسبقهم الزمنيّ.
ونقل القفطيّ كلام ابن برهان وعلق عليه ووجهه بقوله:"أراد أن أصل النحو نتج من أول علماء هذه المدن".