وعلى هذا فهل الفراء أعرب تلك الآيات حالاً لأنه يرى أنها لا يصح فيها النصب على التقريب لما بين (ذلك) المشتملة على اللام التي يشار بها للبعيد، والنصب على التقريب من التنافي في المعنى فبين اللام والتقريب تنافٍ إذ اللام تبعيد لا تقريب هذا هو الظاهر ويؤيده قوله:"ولو كان شيئاً قائماً يرى لم يجز مكان ذلك هذا، ولا مكان هذا ذلك"وإن كانت عبارته السالفة "لأن هذا وذلك يصلحان في كل كلام ذكرته ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه... لأنه قد قَرُبَ من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه"توحي بأنه يرى أن هذا وذلك يتقارضان فتحلُّ إحداهما محلّ الأخرى دون تفريق بين ما جعل للبعيد وما جعل للقريب على حدّ قول خُفَافِ ابن نُدْبَهَ:
أَقُوْلُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ
تَأَمَّلْ خُفَافاً إنَّنِي أَنَا ذَلِكا [٦١]
والنص الثاني هو إعراب الفراء قوله تعالى:{ذَلِكَ عِيْسَى ابْنُ مِرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ}[٦٢] بنصب {قَوْلَ}[٦٣] على التقريب في أحد وجهي النصب الجائزين في الآية وهي مسبوقة باسم الإشارة ذلك المشار بها للبعيد قال: "وقد قرأتِ القُرَّاءُ بالنصب {قَوْلَ الحَقِّ} وهو كثير يريدون به حقاً، وإن نَصَبْتَ القولَ وهو في النية من نعت عيسى كان صواباً كأنك قلت هذا عبد الله أخاه بعينه، والعرب تنصب الاسم المعرفة في هذا وذلك وأخواتهما فيقولون هذا عبد الله الأسدَ عادياً كما يقولون أسداً عادياً"[٦٤] .
فجعل (قولَ) منصوباً على أنه مفعول مطلق في الوجه الأول، ومنصوباً على التقريب في الوجه الثاني، والعامل في التقريب هنا اسم الإشارة (ذلك) المختصة بالبعيد، وجعل عادياً حالاً من الأسد لا من عبد الله، وقوله والعرب تنصب الاسم المعرفة في هذا وذلك وأخواتهما دليل على أنه لم يفرّق بين هذا وذلك.