ولذا يقول القاضي عياض - رحمه الله -: "تكلَّف جماعةٌ حصرَ هذه الشُعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان"[٧٥] .
ثم إذا كان مثلُ المؤمن مثل النخلة ووجه الشبه بينهما ظاهرٌ في أمورٍ كثيرةٍ تقدّم الإشارة إلى شيء منها، فإنَّ المؤمنين في ديارهم مثلهم مثل نخيل كثيرة في جنّة مباركة تؤتي أطايب الثمار وأحسن الأكل في كلِّ حين بإذن ربِّها.
وإذا كان هذا مثلُ المؤمنين في ديارهم فإنَّ مَثَل المصلحين فيهم مثل الفلاّح في بستانه، ومعلوم أنَّ أهل الفلاحة في بساتينهم ليسوا على مستوى واحد في الكفّاءة والقدرة وحسن الرعاية للنخيل والزروع والثمار، بل بينهم مِن التفاوت في ذلك ما الله به عليم، ولا بأس هنا من ضرب ثلاثة أمثلة لثلاثة من الفلاّحين في مزارعهم يتّضِحُ به المُرَادُ والمقصود.
المثال الأول:
فلاّحٌ صفتُه فيما يراه الرائي غير مرضيّة، فهو حادُّ الطبع، أحمر العينين، شديدُ الغضب، سريعٌ في اتّخاذ تدابيره، قليلُ الأناة، يتعامل مع نخيله في حديقته معاملة غريبة خرج بها عن سمت الحق في الفلاحة، واعتزل فيها طريق الصواب في ذلك، وذلك أنَّه اعتقد في نخله أنَّ النخلة لا تكون مستحقةً هذا الاسم [أي النخلة] وما يصحب ذلك من رعاية وعناية إلاّ إذا كانت صحيحةً سليمةً مكمّلةً لا نقص فيها بوجه، ولهذا فإنَّه إذا دبَّ إلى نخلةٍ من نخيله شيءٌ من النقص أو اعتراها شيءٌ من المرض أو داخلها شيءٌ من الخلل، فإنَّه يبادر بلا هوادةٍ ولا أناة إلى اجتثاثها من أصلها وقلعِها من جذورها، ثم يلقي بها بأبعد ما يكون من مكان وراء حائطه. هذا دأبه مع نخيله، لا يهتمّ بأمر الإصلاح ولا يعتني بجانب الرعاية والعناية فيه، ولا ريب أن النتيجة الحتمية لهذا العمل هو تبدُّد حديقته، وتفكّك نخيله، وتناقصُه شيئاً فشيئاً.