ولما كانت هذه الأمور الواقعة منافيةً للإيمان، ولا لها من ينكرها ويغيرها، كانت بيئتُها مرتعاً لاضطراب الأمن بل عدمه، مرتعاً لنشاط أهل الشرك، وعبد الطاغوت، وجفاة الأعراب، وسراق الحجيج، ومنافقي العرب، وعلوج العجم، في النهب والسلب والقتل وقطع الطريق، والاحتيال والنصب، بمختلف الطرق الملتوية، وأساليب الدجل والشعوذة؛ حتى انتشرت جرائم الحرامية، وعصابات قطع الطريق، على حجاج بيت الله الحرام، وسلب أموالهم، ونهب بضائعهم وأمتعتهم، من قِبل البدو والعربان والأدلاء والمطوفين والجَمّالة، فكان الحاج (فضلاً عن غيره) عرضةً لكل ألوان التعدي على العرض والدم والمال، والنهب، والعبث بالحرمات، من الضرب والقتل والسرقة والخطف والاغتصاب، وسوء الأدب والصياح والصخب، واتخاذ شتى أنواع الخداع والحيل لاستغفال الحاج والغريب، عن أمتعته وثيابه ونفقته، أو استدراجه بعيدا عن رفاقه، ليُقضى عليه بضربة بعصا أو خنجر أو طلقة نار، فتخمد أنفاسه، وعندئذٍ يعريه الحرامي من ثيابه، وينتزع حزامه، ويفر به إلى الجبال، وربما كان هذا الحرامي أحدَ الجماميل أو الحراس أو الأدلاء، وقد لا يجد مع ضحيته مالاً، فلا يتأسف إلا على رصاصته!
ولذا؛ أصبح الحج سلسلة من المشقات، بل نوعاً من المغامرة والمجازفة، وكان الناس يحذرون المسافرين من أخطار الطريق، وكان من يريد الحج يودع أهله وداع مفارق لا يرجو العودة؛ بسبب اضطراب الأمن، وسوء أحواله، وكانوا يقولون:"الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود"وأصبح هذا القول مثلاً، يرويه المسنون، الذين أدركوا هذا الواقع [٣] .