للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهو التمسك بالدين الحنيف تمسكا وسطا بينّا بين الإفراط والتفريط، وبين التساهل والغلو، والتدين حين يسري في الناس على هذه المثابة من الرشد يستتب الأمن ويعم الرخاء، وينشر التآلف جناحيه على المجتمع، فتؤدى الحقوق ديانة وأمانة ووفاءً، ويقوم المسلمون بواجباتهم بدوافع الرقابة الذاتية، إذ الدين الحنيف في مكنونه حث على أداء الحقوق واتقاء الحرمات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: ٩٠] .

وقد دلت تجارب الأمم أن التدين في الناس يُسلس قيادهم، إذ لا ينقاد الناس لشيء كانقيادهم للدين، بفعل ما يولده من قناعة ذاتية وباعث ذاتي في الالتزام بالأوامر والانكفاف عن الزواجر، وهذا الانقياد للدين والاستسلام له ليس مقتصرا على العرب فحسب كما يراه ابن خلدون حيث قال: "فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية"قال: والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والمُلك " [٦] .

والصحيح أنه يشترك في هذه الخصائص وذاك التأثر والانقياد الذاتي لسلطان الدين كل البشر لما للدين من هيمنة وسلطان على النفوس لا يدانيه أي عامل آخر في ذلك.