ثانياً: لسيبويه - رحمه الله - جهود في مجال الكتابة عن الضرورة - وإن كانت لفظة "الضرورة"غير مذكورة في كتابه - إلاَّ أن دراسته لهذه الظاهرة تفتقر إلى المنهجية المحددة القائمة على التقسيم، والتصنيف. فما كتبه عن الضرورة لا يعدو أن يكون إضاءاتٍ موزعة ذات فوائد متفرقة أفاد منها النحاة في هذا المجال.
يمكن اعتبار ما كتبه أبو بكر بن السراج الأساسَ التاريخي الأول لحركة التأليف والكتابة المنهجية عن الضرورة. وأمّا المبكر إلى حصر تلك الظاهرة حصراً علمياً فهو أبو سعيد السيرافي.
ثالثاً: لم يصرّح سيبويه بتعريف محدَّد للضرورة، وإنما كان يكتفي ببعض العبارات التي فهم منها بعض شراح "الكتاب" وغيرهم مفهوم الضرورة عنده، وهو أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز له في الكلام بشرط أن يضطر إلى ذلك ولا يجد منه بدّاً، وأن يكون في ذلك ردُّ فرع إلى أصل أو تشبيه غير جائز بجائز.
وقد نُسب هذا الاتجاه في فهم الضرورة إلى ابن مالك أيضاً وشُهر به حتى إن كثيراً ممَّن خالف هذا المنهج وجَّه نقده إلى ابن مالك وحده ولم يتعرض لسيبويه.
ولم يجد هذا الرأي قبولاً لدى كثير من العلماء، على الرغم من شهرة، ومكانة من قال به؛ حيث لقي نقداً شديداً من المتأخرين كالشاطبي، وأبي حيان، وابن هشام، والأزهري، والبغدادي.
وأمَّا عند أبي الفتح عثمان بن جني، وكثير من النحويين فالضرورة ما وقع في الشعر مطلقاً سواء كان للشاعر عنه مندوحة أو لا؛ إذ لا يشترط في الضرورة أن يضطر الشاعر إلى ذلك في شعره؛ لأن الشعر موضعٌ قد ألفت فيه الضرائر.
ويتعدى أبو الحسن الأخفش ذلك فيقول: إن الشاعر يجوز له في كلامه وشعره ما لا يجوز لغيره في كلامه؛ لأن لسانه قد اعتاد الضرائر.