والدعوة التي تسير في الطريق المستقيم والخط الصحيح هي التي تقدم لنا صورا كثيرة, وأمثلة عديدة يحمل أصحابها هذا الإيمان, وينطلقون للحق دعاة لا يثنيهم عن دعوتهم باطل, ولا يوقفهم عن سيرهم مشاغب, ولا يحرفهم عن سبيلهم سياسة, ولا يردهم عن مقصدهم غرض قريب, وأمل عاجل, بل كل هذه الدنيا وما فيها في ناظريهم سراب خادع, ومتاع قليل, وظل زائل.
وللناظر في تاريخ الإنسانية أن يقص علينا روائع القصص عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتلامذتهم.., تحكي إيمانهم الثابت, ويقينهم الراسخ.
ويمثل التاريخ الإسلامي السجل الحافل لهذه الصور الرائعة التي تنم عن إيمان صادق يقف أمام الطغاة والظالمين وقفة العزة والكبرياء, وما الفتوح التي رأيناها في الشرق والغرب إلاّ صورة كبيرة لهذا الإيمان, فقد وقف المسلمون وهم أقل عددا وأفقر عتادا أمام الجيوش الجرارة التي تفوقهم في الجند والسلاح, وغلبوهم بقوة الإيمان وثبات ويقينهم.. وعزمهم الأكيد لإحقاق الحق وإبطال الباطل. وأما الأمثلة الخاصة والقصص الفردية فهي أكثر من أن تحصى وأعظم من أن توصف, وأذكر أمثلة من حياة الصحابة رضي الله عنهم.
فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - آمن في منزله مع أهله وأولاده, يأتيه الخبر بأن قريشا تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا يلبث أن يمضي خارج منزله ليقابل قريشا كلها, وهو فريد وحيد يقدم غير هياب ولا خائف, ويقف أمام هذا الجموع المتكاثفة ليقول لهم: "أتقتلون رجلا يقول: ربي الله", ولا يكتفي بالكلام بل يحاول بكل ما آتاه الله من قوة ليدفع القوم عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفعلا يستطيع أن ينقذ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم, ولكن الفداء هو نفسه, فتتحول قريش إلى أبي بكر لتنزل به ما كانت تنزله بمحمد صلى الله عليه وسلم, وما تركوه إلاّ وهو على الأرض مقطوع إحدى ضفيرتيه.. والدم ينزف من وجهه حتى يغطيه فلا يدري أنفه من وجهه.