هذه صورة من صور الإيمان الذي نفقد, والذي نريد, إنه الإيمان الذي دفع صاحبه لأن يؤثر التعب على الراحة, والضرب على الأمن, والموت على الحياة.. ويحمل أبو بكر إلى منزله وهو مغمى عليه لا يدري ما حوله, والناس لا يشكون في موته, ولكن الله عز وجل لم يكتب عليه الموت بعد فيفتح عينيه وتتحرك شفتاه.. ليسمع التاريخ بماذا يتكلم هذا الرجل هل يريد ماء؟ هل يريد راحة؟ لا, لا هذا ولا ذاك, إنه يقول: "ماذا فعل بمحمد", إنه سؤال الفؤاد المشبع بالإيمان, سؤال العالم بأن رسالة الإسلام لم تتم بعد, وتمامها موقوف على بقاء هذا النبي, فأما هو فرجل من الرجال, فخوفه إذاً كان على الإسلام, على الإيمان الذي لا يمكن أن يتم إذا استطاع المشركون أن ينالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - على صغر قامته, وضعف جسمه, وقلة عشيرته في قومه, يطلب أن يكون الذي يسمع قريشا القرآن الكريم, والإسلام حينئذ ضعيف, والمسلمون حينئذ يسامون من العذاب أشده, ويمضي وحيدا إلى الكعبة عزيزا بعزة الإسلام, وينطلق لسانه بتلاوة كتاب الله تعالى, فما يكون نصيبه إلاّ أن يقع مغشيا عليه من الضرب والإيذاء.. فليندم على فعله إذاً, وليصمم على أن لا يعود إلى مثل ذلك.. لأن الندم على الحق ليس من صفات المؤمن بل يدعوه إيمانه الثابت الراسخ ليكون مرة ثانية صوت الإسلام المدوي في الكعبة بكتاب الله وآياته ليغيظ الكفار.
صورة شاهدة على تقديم رضا الله سبحانه على كل شيء في الوجود, قصص تعتبر لنا عن سر انتشار هذا الإسلام الواسع, الذي ما عرف التاريخ أسرع منه قصصا, ومن أراد المزيد منها فليستنطق التاريخ عن أمثلة الإيمان, وخاصة قصص الفتوحات الأولى حيث غنم الجنود الكنوز, ومع ذلك لم تمتد أيديهم إلى شيء منها, وتصل بتمامها سالمة إلى خليفة المسلمين..