للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ها هنا أمر آخر ينكره ابن حزم على أصحاب التعليل - وخاصة من أهل السنة - وهو التعليل بمعناه الفلسفي، يقول: "إن العلة اسم لكل صفة توجب أمرا ما، إيجاباً ضرورياً" والقول بهذا النوع من العلل في شرع الأحكام معناه "أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليه أن يشرعها".

وهذا لا يقول به أحد من أهل السنة. وقد تقدم أن الأشاعرة ينكرونه أيضا فعلماء السنة يقولون - كما تقدم - بعلل جعلية، جعلها الله تعالى بمشيئته لا يلزمه منها شيء، بل تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا وضرورة.

قال شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله -: " ... البيع علة للملك شرعاً والنكاح علة للحل [أي: للاستمتاع بالزوجة] شرعاً، والقتل العمد علة لوجوب القصاص شرعاً، باعتبار أن الشرع جعلها موجبة لهذه الأحكام".

وقد بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها، وإنما الموجب للحكم هو الله تعالى [أي لا المصلحة ولا الحكمة ولا العلة إذ لا موجب على الله، بل الله الموجب بما شاء على من شاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (١) إلا أن ذلك الإيجاب غيب في حقنا، فجعل الشرع الأسباب التي يمكننا الوقوف عليها علة لوجوب الحكم في حقنا للتيسير علينا، فأما في حق الشارع فهذه العلل لا تكون موجبة شيئا، وهو نظير الإماتة فإن المميت والمحيي هو الله تعالى حقيقة، ثم جعله مضافا إلى القاتل بعلة القتل فيما ينبني عليه من الأحكام، وكذلك أجزية الأعمال فإن المعطي للجزاء هو الله تعالى بفضله، ثم جعل ذلك مضافا إلى عمل العامل بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (٢) فهذا هو المذهب المرضي المتوسط بين الطريقين لا كما ذهب إليه الجبرية من إلغاء العمل أصلا، ولا كما ذهب إليه القدرية من الإضافة إلى العمل حقيقة، وجعل العامل مستبدا بعمله".


(١) سورة الأنبياء آية: ٢٣.
(٢) سورة السجدة آية: ١٧.