وعلى الرغم من كثرة هذه المشاغل التي تستهلك معظم أوقات عبد الله هذا لم يكن خالي الذهن من أحداث عصره، وبخاصة ما يتصل منها بأحوال المسلمين، ليس في يوغوسلافية وحدها بل في سائر بلاد البلقان ومنطق الخلافة، التي أصبحت محاطة بالخطر من كل جانب منذ كتبت الهزيمة على الجبهة الألمانية وحلفائها في أولى الحربين العالميتين التي أوشكت أن تلتهم الأخضر واليابس من حياة الناس، وكان من حظ مسلمي يوغوسلافية وجيرانهم أن يكونوا أكثر أعضاء الجسم الإسلامي إحساسا بتلك المخاطر، إذ بدأت العصبيات الصليبية تتحرك في مواجهتهم، مزودة بكل أحقاد الماضي التي تصور لأصحابها أن هؤلاء المسلمين ليسوا سوى بقية غزاة احتلوا أرضهم واستولوا على أهلهم بتحويلهم عن النصرانية إلى الإسلام! ... ولا ريب أنها مقدمات رهيبة لمحن لا طاقة للمسلمين بالرد عليها أو الخلاص من شرها، إذا استمرت الأحداث في طريقها المشهود... وكل الدلائل قائمة
على أنها مستمرة دون عائق! ...وكثيرا ما تتداعى في خيال عبد الله صور المآسي التي طالعته أثناء قراءته تاريخ المسلمين، فيتذكر الديار التي أخرجوا منها، والمذابح التي سيقوا إليها، والاكتساح الهائل الذي تعرض له دينهم تحت مطارق الصليبية، التي اقتلعت آثار سبعة قرون من حضور الإسلام في الأندلس وصقلية ومالطة و... فلا يزيده ذلك إلا خوفا من المستقبل، واستيقانا من قرب الجائحة التي تهدد وجود الإسلام في كل هذه الأقطار الواقعة بين ذراعي الوحش الصليبي...
ومما يضاعف هواجسه وآلامه ما يلمسه من طلائع الضعف النفسي الذي بدأ يجتاح معنويات المسلمين في أعقاب الهزيمة التي ألمت بدولة الخلافة، إذ جرف تيار الفوضى الكثير من شبابهم، فشاركوا غيرهم من الطوائف في التحلل من الالتزامات الخلقية، وانصرفوا عن مسلك آبائهم في تحقيق شعائر الإسلام من صلاة وصيام وآداب، كان لها فيما مضى الأثر الأكبر في صيانة الشخصية الإسلامية من الانهيار والذوبان...