للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولم يكن ذلك شعوره وحده، بل كان هو القدر المشترك بين أفراد الطبقة المحافظة والواعية من قومه، لا يكاد أحدهم يجتمع بالآخرين حتى يطارحه الحديث حول هذا الواقع الذي يشغل بالهم جميعا، دون أن يعرفوا مخرجا منه..

وهبط عبد الله...من القطار إلى أرض المحطة التي انتهى إليها من أستورية، وأخذ سبيله إلى سوق الحبوب، التي ألفت قدماه دخولها كلما وفد إلى هذا البلد، ولم يصرفه عن الحانوت الذي يقصد إليه ما في رأسه من تلك الأفكار التي لا تكاد تفارقه لحظة..

واستقبله عميله الأستوري بما عوده من حفاوة وإكرام، وأراد الزيادة في تكرمته فهمس في أذن العامل الذي لم يغب إلا قليل حتى أتاه بما أراد له صاحبه من شراب رائق الصفرة، شهي البرودة، بارز الرغوة..

وقال الخواجه الأستوري وهو يشير إلى الكأس الأنيقة: هذا خير ما تلطف به حرارة الجو يا صديقي... ورد عبد الله: حقا إن الجو حار.. ولكن لا أستطيع أن أتناول من الشراب ما لم أعتده.. فما هذا؟ .. قال الخواجه: إنه كأس من الجعة.. الجعة الصحية المستخرجة من الشعير..

الجعة!.. ولكن هذه خمر.. وهي علينا نحن المسلمين حرام..

وتدفقت هذه العبارة من لسان عبد الله في لهجة الاعتزاز والتصميم دون أن يتعمد ذلك، وكأنها محاولة لإثبات التمييز الذي يحتفظ به كمسلم.. ولا يستطيع مفارقته مهما تختلف الظروف..

وضحك الخواجه الاستوري ثم أجاب: قد كنت أحسب الأمور قد تغيرت عندكم.. ولكن..لا بأس.. كل شيء سيتغير شئنا أو أبينا.. والتفت إلى العامل يأمره أن يأتيه بكأس من عصير الفاكهة المبرّد..

وانسربت من عبد الله نظرة إلى ما فوق رأس التاجر النمساوي.. فإذا عيناه مشدودتان إلى قِمَطرٍ من الحرير قد عُلق بأناقة في صدر المكتب، وبدا كأن فيه كتابا عزيزا على صاحبه، وتفاعلت في صدره الإشكالات فلم يتمالك أن سأله في أدب كثير: وما هذا الذي أراه فوق رأسك؟..