"زعم بعض العلماء أن الكلام المنظم الذي يجري إلى عمود خاص ليس من عادة العرب فإنك ترى في شعرهم اقتضابا بيّنا، فلو جاء القرآن على غير أسلوبهم ثقل عليهم، وهذا زعم باطل، فإن العرب كانوا يتَلَهّوْنَ بالشعر، ولا يعدونه من المعالي وإنما كانوا يعظمون الحكماء ويحبون الخطبات الحكيمة، ولذلك كان الأشراف يأنفون عن قول الشعر وأنْ يُعْرفوا به وإنما يستعملونه نزرا على وجه الحكمة وضرب المثل. ومحض الوزن والنظم لا يُعَد شعرا، وإن للشعر مواضيع من فنون الهزل والإطْراب، فهو على كل حال من لهو الحديث، فمن نظم الأبيات في غير مواضيعه لا يُسَمّى شاعرا إنما هو ناظم. ومن هذا الجانب المعروف من حقيقة الشعر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا".
أي هذا يكون عل الندرة، ولذلك نزه الله تعالى نبيه عن الشعر حيث قال:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
فإن تبيّن لك هذا الفرق بين الشعر والبيان، وأن العرب لم يكن أكثر كلامهم الجزل شعرا، فهل بعد ذلك تجعل القرآن على أسلوب الشعراء وأنه مقتضب البيان كمثله؟ ألا ترى كيف جعل الله ذلك من ذمائم الشعراء وقدمه على الكذب مع ظهور شناعة الكذب فنبّه على أن القول من غير غاية وعمود ونظام أدل على سخافة القائل، فقال تعالى في ذم هؤلاء الشعراء:{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} الشعراء (٢٢٥-٢٢٦) .
هل الهيمان في كل واد إلا الجريان في القول من غير مقصد ونظام. وليس للعقل فيه رغبة، ولكن النفس ربما ترغب في الملاهي، والخُلُوِّ عن الفكر فتميل إلى ذلك كما تميل إلى الخمر والغناء وأشغالٍ تغفلها عن الهموم والأفكار وهذا ليس بدواء ولكنه داء. .