للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال أبو عاصم: وقد أذكرتني هذه الحكاية حكاية ابن أبي سنان قال كنا جلوسا نتذاكر شئون العلم والإيمان ونستثير في القلوب الأحزان والأشجان على ما سلف من المسلمين وما خلف وما أصابهم من الفساد والتلف إذ أقبل إلينا إنسان فجلس على ركبتيه وأرخى جفنيه وقال بصوت كسير وقلب حسير: إني سائلكم يا معشر المتعلمين عن مصيبة حلت بهذا المسكين؟ ما قولكم في رجل حميت عليه امرأته فصبت من لسانها عليه العذاب صبا ففار الدم في خلايا رأسه ودماغه فقذفها (بطلقة) كأنها شهاب ثاقب، ثم لم يشف ذلك غله فعاد من عند الباب ورماها (بطلقة) أعظم شررا من أختها فصاحت المنكوبة وولولت ولم تترك له أبا ولا جدا ولا نسبا ولا صهرا فعزز طلقاته (بطلقة) ثالثة لم تبق في المسكينة من عقل يذكر.. وهما الآن على ما فرطا نادمان وللتلاقي متلهفان.

قال ابن أبي سنان فماج القوم موجة ومد والله كل عنقه وفتح عقيرته فإذا بذلك الشاكي المستفتي يسمع في لحظة واحدة عشرين جوابا وفتوى. وبلع المسكين ريقه وكفكف حريقه واشتغلوا عنه ببعضهم يشرح كل واحد رأيه وفتواه، والذي أدى إليه اجتهاده وتقواه، فمن قائل: يعود بعضهما لبعض وقائل: لا يعودان وقائل: هي طلقة واحدة وقائل: طلقتان، فما زالوا على صخبهم وضجيجهم والمسكين لا يدري ماذا يصنع، وقد أخذه الرعب والعجب وتملكته الحيرة والسورة، فلما طال به المقام ولم ينته اللجاج والخصام أشفق على نفسه منهم، وعليهم من نفسه وقال: ياقوم يا قوم أنا أكفيكم المسألة وأطفئ عنكم نار المشكلة، امرأتي والله طالق ثلاثين لا ثلاثا فلا رجعها الله أبدا ...

ثم ولى وهو يجمع أطرافه ويلملم ثيابه مستعيذا مستجيرا وخائبا محسورا.