قال أبو عاصم: فما كان أغنى هؤلاء عن كل هذا الجدال والمراء، وكلهم لو كان صادقا في تقواه لكان على نصيب من الحق في فتواه، لأن المجتهد لا يخلو من أحد القسمين من الأجر أو الأجرين.. وقد صار هذا شأن كثير من المتعلمين، ولع بالمبارزة والمناظرة والمداورة والمحاورة كأنهم فرسان في حلبة قتال أو معترك نزال، يخوضون في كل سؤال وإشكال ما بين تقرير واعتراض وتقدير وافتراض وما تكاد تفتح فمك لخطاب حتى يفتح لك في كل كلمة باب وتشرع لك في كل مسألة حراب..
والويل ثم الويل لمن يشرح لهم حكما ما: إنها ليست أمرا مسلما ولا دليلا محكما، ومن أين لك هذا الحكم وكيف؟
وما دليله وكيف؟
ومن رواه وكيف؟
فإن قلت: هو من بنات أفكاري ونتيجة اجتهادي وابتكاري..
قال لك قوم: ومن أذن لك بالاجتهاد ألا يكفيك أن تكون من الإتباع؟
أنى لك النظر والاستنباط يا قليل الاطلاع يا ضيق الباع!
وإن قلت: ليس من ابتداعي ولا اختراعي بل هو قول العلماء وسبقني إليه الفقهاء..
قال لك قوم: كل إنسان نأخذ منه وترد.. العلماء؟ ومن هم العلماء؟ هل هل خلقوا من ذهب أم هو خلق آخر؟ إنهم رجال ونحن رجال ولله وحده الكمال.
فما تزال المعارك دائرة، والدماء فائرة، والمسائل متناثرة، لا تدري الحجة عند هذا الصائح أم عند ذاك المنادى؟
وأيم الله ما بلغ مثل هؤلاء غاية، ولا أصابوا حقا، ولا استفادوا علما وما هدوا إلى رشاد..
العلم إنما يتوصل إليه بالإحسان في الطلب وكمال الأدب.
ولطافة السؤال والبراعة في الجواب من غير بغي أو تعد على الحدود ولا بعد عن المطلوب والمقصود.
إني والله رأيت علامة العلم في العالم وسمة الفضل المتكامل أن سكوته يكون أكثر من كلامه..
لأن العلماء يزنون الكلمات ويتخيرون الحجج ولا ينطقون إلا إذا سئلوا، ولا يفتون إلا إذا انتدبوا، فإذا قالوا سمعت الحكمة الرائعة والبرهان الساطع.