وأمام هذه الحريات الأصلية تقوم واجبات معينة، هذه الواجبات هي التي يمليها النظام العام للجماعة، والتي تحتها المصلحة المطلقة للأمة. فالحرية ليست فوضى، والحياة ليست انطلاقة نحو التدمير والتخريب تحت سلطان الرغبة وميل النفس وجموح الهوى.
ولنسمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر هذا الشعار النبيل:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
لم يطالب القرآن بالعقوبة، ولم يدع إلى الانتقام. وإنما دعا إلى التفكير في القضية كلها بدايتها ثم تسلسلها ثم نهايتها. لأن الفرد المتأمل لهذه القضية سيدرك أن محاولته العدوان على غيره ليس تحطيما لهذا الغير وحده، وإنما تحطيم لنفسه أيضا. وأنه ما دام قد وهبة الله العقل والتفكير فيتحتم عليه أن يصل إلى النتيجة الحتمية. وهي أن القصاص حياة له، وحياة لغيره، وحياة للمجتمع.
ولو تتبعنا صورة للعدوان في مجتمع بدائي لوجدنا أن الأمر يجري على هذا النحو.. يبدأ فرد بالعدوان على آخر، وبذلك يكون قد حكم على نفسه بالموت لأن أنصار القتيل لن يتركوه من غير انتقام. وعندما تتم عملية الانتقام تتبعها عملية مماثلة وهكذا يتحول القتل إلى سلسلة متوالية تهدد حياة الجماعة وتحرم المجتمع أمنه واستقراره، فلا يركن فرد فيه إلى الدعة أو الاستقرار لأنه يتحول أما مطلوب لدم، أو مطالب بدم.
ومن هنا جاء النظام الأم، النظام الأصل، التشريع الإسلامي العادل الرحيم وصاح في الأغبياء هبوا أيها الضعاف، وأدركوا الحقيقة. أن القصاص ليس عقوبة، وليس قسوة ولكنه رحمة بل إنه الحياة، وما أقل حوادث العدوان في مجتمع يأخذ به، وما أكثر حوادث العدوان في مجتمعات عطلته. إن الله سبحانه وتعالى اللطيف الخبير أعلم بالأسرار والخفايا.. ولهذا كان القصاص حياة.