وانتهى ركب نجران إلى مشارق يثرب.. وهناك توقفوا قليلاً ليصلحوا من شأنهم، ينفضون عنهم غبار السفر، ويرتدون أنفس ما يحملون من برود اليمن، مما يعد نادر الوجود في معظم أنحاء الجزيرة ثم واصلوا سيرهم حتى وضعوا رحالهم على مداخل المسجد، الذي علموا أنه موضع استقبال رسول الله، ثم انطلقوا إلى داخله، يجرون حبراتهم ويتقدمهم معظموهم الثلاث حتى صاروا إلى الغاية التي ينشدون. وبادر الوفد نبي الله بتحيتهم الخاصة (الله معكم) .. ثم أخذوا مجالسهم على جانبي رؤسائهم الذين انتظموا في مواجهته..
وتكلم الأسقف ثم تلاه العاقب فأثنيا على الله، وأفاضا في ذكر فضائل دينهما، وما يحض عليه من البر والتواضع وحسن الخلق.. وكأنما أرادا بذلك التوكيد على ما بين دعوته ودينهما من القرب والتلاقي، وكأن رسول الله قد أراد إحاطتهما بأن كل خير سيظل أبتر ما لم ينطلق عن الأساس الأول والأعظم، وهو إفراد الله وحده بالألوهية والربوبية والحاكمية، فلا تعنوا الوجوه لغيره، ولا يرفع دعاء إلى سواه، فقال لهما:"أسلما".. ولكنهما لم يريدا أن يكونا صريحين في الإجابة فعمدا إلى التورية باستعمال مفهوم الإسلام على الأصل اللغوي دون الشرعي فقالا:"قد أسلمنا"يريدان بذلك أنهما وقومهما إنما يبغيان في كل ما يأتيان وجه الله، فهم إذا مسلمون أزمتهم لله دون غيره. وما كان لمثل هذا الالتواء أن يرضي صاحب الرسالة البينة، فرفض ادعاءهما، وأصرا على زعمهما، فلم يكن بد من مواجهتهما بالكلمة الحاسمة فقال:"كذبتما.. يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير"..
وكان في هذا التقرير ما أخرس الرجلين فلم يجدا مندوحة عن الإقرار بما يضمران، والدفاع عما يعتقدان.