فلم ينتهوا إلى الكلمة الأخيرة فيه حتى اليوم، ولكن الصاحب لا يرى فيه إلا نوعاً من الهذر يجمع من الحساب ما لا يدرك بالارتماطيقي، وبالأعداد الموضوعة للموسيقى، ثم يجهز عليه بهذه الطعنة النجلاء إذ يقول: "هذا كلام الحكل ورطانة الزط.. وما ظنك بممدوح قد تهيأ للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة، والمعاني المنبوذة! ..."
وقد يقع الصاحب على كلمة بارعة قالها أحد النقاد في شعر المتنبي، فيكتفي بها معبراً عن رضاه، كما صنع في هذا البيت:
فما للنوى، جُد النوى، قطع النوى
كذاك النوى قطاعة لوصال
فيورد عنه كلمة أحد شيوخ الأدب إذ يقول: "لو سلط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى كله! ..."
ثم استمع إلى قول المتنبي هذا:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
وقديماً شغل الشراح عن معنى هذا البيت بالجدل على (بوقات) .. بعضهم يصححها وبعضهم يخطئها، أما الصاحب فينصرف عن كل ذلك ليقول: "إن هذا التحاذق كغزل العجائز، ودلال الشيوخ! ...".
ويحلق الصاحب في فن التعبير، حين يقع على قول المتنبي:
جواب مُسائلي: أله نظير؟
ولا لك في سؤالك لا.. ألا لا
فإذا هو يعقب عليه بهذا السهم الذي شَفَى به واشتفى. يقول: "لقد سمعت بالتمتام ولم أسمع باللألاء، حتى رأيت هذا المتكلف المتعسِّف، الذي يقف حيث يعرف".
ويتابع الصاحب الساخر سقطات أبي الطيب، أو ما يراه هو سقطات، بهذا المبضع الذي لا يرحم، فما إن يصل إلى قوله:
عظمت فلما لم تكلم مهابة
تواضعت وهو العظم عظماً عن العظم
حتى يصرخ "ما أكثر عظام هذا البيت!..".
وما أروع عبارته حين يعرض لقول أبي الطيب، في وصف أسير أخذ منه الخوف حتى هبط إلى مرتبة الأطفال في اللفائف:
فغدا أسيراً قد بللت ثيابه
بدم، وبل ببوله الأفخاذا
فكأنه حسب الأسنة حلوة