وإذا علمت أن (البرني والآذاذ) من التمر أدركت جودة التعليق الذي أتحفنا به الصاحب عندما قال: "لا أدري أكان في الحرب أم في سوق التمارين في البصرة ...".
ولا ينكر ناقد منصف أم الصاحب لم يكن عادلاً في جميع نقده للمتنبي، فشذ ما جار عليه، وكثيراً ما أبرز لآلئه في صورة الخرز.. ولكنه لم يعدم التوفيق في كثير من تجريحه. ولعل أفضل ما يقع عليه قارئ هذه الرسالة، تلك النفحة التي بلغ بها قمة السخر الفني، حين يعرض قول أبي الطيب:
لو استطعت ركبت الناس كلهم
إلى سعيد بن عبد الله بعُرانا
ثم يعقب عليه بهذه الوخزة البارعة:"ومن الناس أمه ... فهل ينشط لركوبها؟! والممدوح أيضاً لعل له عصبة لا يحب أن يُركبوا إليه! ...".
وبعد فهذه طائفة من طرائف تلك الرسالة التي تنفس عنها صدر ذلك الأديب الناقم من كبرياء أبي الطيب.
وليس الصاحب بن عباد هو الناقم الوحيد الذي دفعه المتنبي إلى صفوف أعدائه بتعاليه وتعاظمه وعنجهيته، ولكنه واحد من الذين يحسنون الرمي عن خبرة.. فليس بوسعه أن يحشره بين عضاريط الفسطاط وشُوَيْعري بغداد ...
ونحن إذ نستعرض غمزاته هذه لا يسعنا أن نؤيده في كل ما ذهب إليه من رأي في النماذج التي تناولها من شعر أبي الطيب، ففي كثير من مآخذه تحامل بيّن، لا يمكن الزعم بأن الناقد على جهل منه، ولذلك اكتفينا من تلك الغمزات بما هو أقرب إلى الإنصاف، وقليل من التروي في تقييم [٢] هذه الأبيات المجروحة يؤكد صدق ما أطلقة الصاحب عليها من الأحكام ...