قالت عمارتي: يا جويرتي الصغيرة؟! في هذه الحياة أفكار وحقائق لا يصيبها هرم وإن تقدم بها العمر، وفي هذه الدنيا أعمال وشعائر لا يلحق بها شيخوخة وإن طال عليها الدهر، وما كان القدم ليزري بكل شيء ويدسه في التراب، وما كانت الجدة لتزين كل شيء وتعلى له المنازل.
قالت العمارة الحمراء: معذرة أيتها الجارة العزيزة، أنا عمارة فتاة، لا أزال في دنيا الأطفال، لا أفهم إلا الواقع، ولا أدرك إلا الحس، فقولي قولاً سهلاً هيناً، لعلي أجد فيما تقولين هدى.
قالت عمارتي: هذا هو المسجد على مقربة منا، عليك أن تزوريه، وهناك يتفتح لكِ ما استغلق، ويتضح لكِ ما استبهم، وهناك تعرفين أموراً كثيرة ما ينبغي لك أن تجهليها، وأحر بذات اللب أن تشم الأزهار في حدائقها فذاك أروح للنفس وأصفى، وأن تشرب الماء من منابعه، فذلك أروى للغليل وأشفى.
ثم هاتان جارتان ذواتا تقوى وصلاح، خير لك أن تصحبيهما، وأن تستمعي إلى أحاديثهما، وسوف تجدين في هذه الصحبة وذاك الاستماع راحة نفس، واطمئنان قلب، وشفاء من هذا القلق الذي تكابدين.
قالت الحمراء: أختي العزيزة! إنني عمارة حديثة النشأة، قد خططني مهندسون أجانب، وأشرف على بنائي (مقاولون) غرباء، وها أنت ذي ترين ما أتمتع به من نوافذ واسعات تستقبل الهواء والشمس، وشرفات شامخات تطل على كل طريق، وذؤابات تتلفع بالسحب وتسمع همس النجوم، وقواعد في الأرض مسلحة صلبة كأنما قد أعدت لتقوم عليها الجبال، ولا تسألي عن حالي في الداخل، فلن أستطيع أن أصف، ولن تستطيعي أن تتصوري، لقد أفرغ فن العمارة الحديث فيّ كل ما يستطيعه من جمال وإتقان وزخرفة ألوان وأسباب متعة وراحة. أفبعد هذا كله، ومع هذا كله، تنصحين لي أن أزور مسجداً قد هجره أهله، وضيّعه ذووه، وتشيرين عليّ أن أصحب عمارتين قديمتين قد شاختا، تعيشان في عصر العلم والحضارة عيش الغرباء؟!