قالت العمارة الحمراء: الحق - يا جارتا - أني لا أعرف عن هذا المسجد الذي تقولين إلا هذه الصورة التي تراها عيناي، وهذا النداء الذي تسمعه أذناي، ولا أرى أحداً من سكاني ينقل الخطا إليه، أو يثني عليه. بل سمعت إحدى الساكنات تقول لجارات لها إننا سنرحل عمّا قريب إلى عمارة أخرى، فهذا المسجد يفسد علينا نومنا في الأسحار، ومن بعد الظهيرة، ويشعرنا دائماً أننا في هذا الحي غرباء، فقالت الجارات الساكنات: إننا لنقاسي ما تقاسين، ولقد عزمنا على الرحيل من قبل مرات عديدة، ولكن جوار هذه (القهوة) وما توفره من لهو ومتع لأزواجنا وأبنائنا كان عزاء وسلوى.
وإني لأخشى أيتها الجارة أن يرحل عني سكاني، وتخلو شققي من الناس وفي ذلك قضاء على مستقبلي، وبلاء عظيم..
آه أيتها الجارة! إني لأغبطك على هذه (القهوة) الجميلة التي تقيم في طابقك الأول، فهي ضمان لمستقبلك، وعون لك على النوائب. قالت عمارتي: يا لكِ من جارة صغيرة غريرة! أنتِ لا تفكرين إلا في المستقبل وضمانات المستقبل، وما المستقبل - فيما يخيل إليّ - إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. قالت الحمراء: وأي شيء غير المستقبل جدير بالاهتمام والتفكير، أيتها الجارة العزيزة؟!
قالت عمارتي: كان ينبغي أن يكون لكِ في جوار هذا المسجد عظة بالغة، وأن يكون لك في جارتيْ هذا المسجد قدوة صالحة.
قالت العمارة الحمراء: ما أرى المسجد إلا شيئاً قد أتى إلى هذه الدنيا، فكان له شباب وسلطان، وكان عليه إقبال وفيه رغبة، ثم أصباه شيخوخة، ضعف، وها هو ذا يسير على طريق الفناء، شأنه شأن غيره من الأشياء أو هذه هي العظة التي تريدينها؟!
أما هاتان العمارتان فقد عاشتا حياة غير هذه الحياة، وليس لديهما إلا ذكريات قديمة تجترانها بكرة وعشيا، فكيف تكونان لي قدوة صالحة، وكيف أجد على آثارهما الهدى؟!