فقال الثاني: أما أنا فقد عرفتها صغيراً، وبقيت أحافظ عليها كبيراً، فقد كان أبي وأمي حريصين عليها، وكانا يؤنبانني كلما رأيا مني غفلة، وكان أن توظفت وانتقلت إلى بلد آخر بعيداً عنهما، ولم يكن في ذلك البلد إلا المسجد واحد وإمام واحد، وكان الإمام أيام الجمعة يلتزم خطباً معينة لا يحيد عنها ولا ينحرف، يكررها عاماً بعد عام، ويسمعها المصلون صابرين سنة بعد سنة، وإني حتى هذا اليوم لا أزال أذكر كثيراً من موضوعات تلك الخطب، وأحفظ كثيراً من الأحاديث النبوية التي كانت تختتم بها. وقد تبدلت الدنيا غير الدنيا، وتبدل الناس غير الناس، وأصبحت المفاسد يموج بعضها في بعض، ومع هذا كله يخيل إليك أن جماعة من خطباء المساجد لا يعيشون فوق هذه الأرض، ولا يسمعون أخبار هذه الدنيا.
فقال زميله الأول: الحق - يا أخي - أن خطبة الجمعة قد أصبحت عند بعض الخطباء عملاً (وظيفياً) كأعمالنا - معاشر الموظفين - ونحن - كما ترى - نقوم بما تيسر من أعمال، ثم نقبض المرتب على كل حال.
فاندفع ثالثهم يقول: الثقافة السطحية المحدودة، والضعف الأدبي في التعبير هما سبب ما نراه عند بعضهم من التزام خطب معينة يأخذونها من الكتب يكررونها حيناً بعد حين، وعاماً بعد عام، هم يرون ما في حياتنا من مفاسد، ويسمعون ما فيها من خداع وغش، ولكنهم لا يملكون أكثر من الحوقلة والترجيع، فعاد الثاني يواصل كلامه ويقول: ومهما تكن الأسباب، فقد كرهت خطبة الجمعة من ذاك الإمام، وكرهت الصلاة خلفه، ثم اشتد بي الكسل، فقعد بي عن سائر الصلوات، على أنني لا أزال أشعر بالخزي والعار، كلما رأيت المصلين يقبلون على المسجد وأنا أوليه الأدبار.
أما ثالثهم فقد تشاغل عن زملائه، وأخذ يمد عينيه إلى الشارع، وتلهى بما فيه، حين أحس أن دوره في الكلام قد جاء، ولكن زملاءه جاذبوه أطراف ملابسه وقالوا إلى أين؟ تعال هنا، وهات ما عندك.