"رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فأخبرهم أنه يريد العمرة [٢٩] ، وخرج في ذي القعدة بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من الأعراب، وساق الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس حربه، وليعلموا أنه إنما خرج زائراً للبيت معظماً له، [٣٠] حتى إذا كانوا بثنية المُرار بركت ناقته القصواء، فقال الناس:"خلأت الناقة"، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما خلأت؟ وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها"، ثم أمر الناس أن ينزلوا"[٣١] .
على أن قريشاً لم تطب نفساً بهذه العمرة، ولم ترض عن دخول المسلمين عليها مكة، ولو كانوا إنما يريدون زيارة البيت وتعظيم حرمته، فأعدت ما استطاعت من قوة، وخرجت بالعوذ المطافيل تريد صد النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد ....
وأنّى لها صده؟! وقد التف حوله أولئكم الآساد الظماء، الذين يستعذبون الموت في طاعته، وفي نصرة عقيدتهم، وإعلاء راي دعوتهم ... فعمدت مكرهة إلى المفاوضات، علها تأخذ لنفسها منه ما ترضى به ... وطالت هذه المفاوضات، واختلفت الرسل بينه صلى الله عليه وسلم وبينها، وبلغ عدد رسلها إليه خمسة: بُديل بن ورقاء الخزاعي، ومِكرَز بن حفص بن الأخيف، والحليس بن علقمة، وعروة بن مسعود الثقفي، وسهيل بن عمر أخو بني عامر بن لؤي [٣٢] ،وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاهم بصدر رحب، ويبين لهم في قاله وحاله أنه ما جاء يريد حرباً، وأنه إنما جاء معظماً لحرمة البيت ... وكان هؤلاء السفراء يعودون إلى قريش وهم أميل إلى مواتاة المسلمين والسماح لهم بأداء نسكهم الذي جاؤوا من أجله، غير أن قريشاً كانت تأبى في ذلك عناد ومكابرة، وعدم تقدير لواقع الظروف التي تطيف بها.