وإلى جانب كل هذا أقيم فيه أول معهد عرفه الإسلام يعمل فيه وحي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم على تهذيب النفوس وتربية العقول، وتنظيم المجتمع الجديد على ضوء الدين الجديد الذي صنع للوجود أمة هي {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران: من الآية١١٠) .
وقد تلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه في هذا المعهد ما أوحى الله من قرآن فكتبه من كتب، وحفظه من حفظ، وتساءل عن بعض آياته من تساءل حين اختلفت الأفهام أو تعايت عن إدراك ما تحمل الكلمات أو ما تهدف إليه الآيات، فكان عند صاحب الإلهام جواب.
وعاشت العقول والأسماع والأبصار والأرواح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع بيانه وما يتدفق فيه من جوامع الكلم، ومع إرشاده البصير الذي يأخذ بأيدي الضاربين في ظلمات الشكوك إلى صبح الحق ونور اليقين، ومع حركاته وإشاراته وما تحمل أساريره من انطباعات في رضاه وغضبه، ومع عظاته التي تربط القانتين الخاشعين بربهم في صلاتهم بل في حياتهم، وكأنما ربطتهم العظات التي أحكم نسجها إيمان الواعظ الأكبر، وأوثقت أرواحهم بالله فهم مع الله أبدا {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}(المجادلة: من الآية٧) ولم تتقيد الدراسة في هذا المعهد بمنهج ولا بزمن، وإنما كان قوام الدراسة فيه العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب: العقيدة الواضحة والشريعة التي ترسم للمجتمع طريقه، وتحدد له معالم الحياة الصحيحة التي يريدها الله لخير الإنسانية والأمة، الأخلاق التي تحدد سلوك الفرد والمجتمع، والآداب التي تصون النفوس من التردي - وواجهت الداعي الأول إلى وحدانية الله - وثنية اتخذت الأرباب من الصخر وقال عبادها:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى}(الزمر: من الآية٣) فاتخذوا من الحجر الأصم وسيلة تقربهم إلى الله، وحين دعتهم الإنسانية العاقلة إلى عبادة الله دون وسيلة تحدوا دعوته.