لذلك لا غرابة إذا رأينا أن الإسلام يرفع من شأن العقل ويأمر باستخدامه في قضايا الحياة الصغرى منها والكبرى وجعل الذين يحكمون [٢٩] . عقولهم ويستنفدون طاقات تفكيرهم في كشف حقائق الحياة واكتناه أسرارها وحدهم أهلا لأن يوجه إليهم الخطاب وأما أولئك الذين أوقفوا حركة العقل وأوصدوا في وجهه باب المعرفة فليس لهم من شرف الإنسانية حظ ولا من كرامة البشر نصيب وإذا استعرضنا ما جاء في القرآن الكريم وحده في معرض الثناء على العقل أو في سياق الحث على إعماله والنهي عن إهماله وجدنا أنه قد ذكر في القرآن الكريم وحده ما يقرب من سبعين مرة, فالشرع لم يتبين إلا بالعقل والعقل لن يهتدي إلا بالشرع والحقائق العلمية إما أن تكون فكرية محضة وإما أن تكون مستندة إلى الحواس.
أولا: الفكرية المحضة
كثير من الحقائق لا يتوقف إثباتها على الحواس بل يكفي في إثباتها الفكر وحده دون حاجة إلى تأييدها بمشاهدة أو تجربة, ومن هذه الحقائق ما يسمى (بالبدهيات) وهي القضايا التي إذا عرضت على العقل السليم كان مجرد عرضها كافيا في إثباتها والتسليم بمقتضياتها فهي في غنى عن أن يبرهن عليها مثل الواحد نصف الاثنين, والضد ان لا يجتمعان والأثر لا بد له من مؤثر وما شابه ذلك.
وهذه الحقائق البديهية هي الأساس في إثبات القضايا العقلية المحضة ولولا هذه الحقائق البديهية الفطرية المودعة في كل نفس لما استطاع الإنسان الوصول إلى حقيقة عقلية, إذ لا بد للإنسان في طريق وصوله إلى حقيقة عقلية من أن يستند إلى هذه البديهيات وأن يجعلها العماد الذي يرتكز عليه في حياته العقلية.