حنانيك يا صديقي!! لم ألق الطباشير بعد، ولا أزال صديقاً وفيا لسبورة الفصل، أحييها كل صباح، وأودعها وعلى أطراف أصابعي وأعطاف ملابسي آثار وغبار.
لقد كنت من قبل الإحالة مدرس تقاعد، وهأنذا اليوم قد صرت مدرس تعاقد، غير أني لا أكتمك أن شعوري قد تبدّل وأن إحساسي قد اختلف، ما أبعد الفرق بين طائرين: طائر قيده في جناحيه، وطائر قيده في رجليه.
لقد وقفت طويلاً أسرح الطرف إلى الطريق التي سرت عليها خمسة وعشرين عاما أغذّ السير وأواصل السرى والكلال، لا أعرف الراحة في وضح النهار ولا في غسق الليل، ولا أجد الظل البارد ولا الماء الفرات في حمارة القيظ، ولا أملك الكنّ الدفيء ولا الحساء السخين في صبارة القرّ.
لم أستطع يا صديقي أن أرى الطريق جميعاً على الرغم من أني وقفت أطل عليها من فوق ربوة عالية بعضها كان ضبابا، وبعضها كان أودية وشعاباً، وبعضها كان يغطيه الثلج، وبعضها كان قد جرفته الأمطار والسيول، والقليل القليل الذي استطعت أن أراه كان بهيجاً يسر الناظر، ويهيج الأشواق والمشاعر، كان زهره ذا عطر، وكان شجره ذا ثمر، وما أظنني أنساه مدى الحياة، أو تغيب عن مخيلتي ذكراه.
وجدت الذين قالوا:(إن المعلم شمعة تحترق لتضيء لغيرها) كانوا صادقين يصدرون عن واقع وينطقون عن تجربة، غير أن (تحترق) هذه ليست دقيقة التعبير ولا صادقة التصوير، ولو أنهم قالوا بدلاً منها (تُحرق) بالبناء للمجهول لكانوا أصدق وأدق.
الناس الذين تحترق لهم الشمعات يمضون لطياتهم مبصرين، ويسيرون على دروبهم لا يعترون، أما الشمعات فكيف حالها، وماذا كان مآلها؟! ما أكثر ما تصبح (رماداً) يا صديقي!! يمر بها أحياناً أولئك الذين استضاءوا بنورها، فيقفون عليها كما كان شعراء الجاهلية يقفون على الدمن التي لا تتكلم، ولا يعرفونها إلا بعد لأي وتوهم، فيخاطبونها بشعر فيه رثاء وعطف، وفيه ذكريات وُد وسرور.