للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أم ترى ذلك عائداً إلى ما يغشى هذا العالم هذه الأيام من قلق وذعر وجوع وفقر، فالناس لا يطمئنون إلى شيء، ولا يستقرون على حال، يصبحون وهم يخشون شيئاً يأتي به الليل، ويمسون وهم لا يستبشرون بما يطلع به النهار، ليس في صدورهم إيمان يبعث الطمأنينة والأمن، وليس في قلوبهم عقدة تكل الأمور إلى الله بعد أخذ بأسباب الحياة.

أم ترى ذلك راجعاً إلى أنه قد غبر من عمري دهر طويل وأنا عبد وظيفة، لي رزق معلوم أجده محضراً في آخر كل شهر، لا أخشى عليه ضياعاً، ولا أخاف فيه نقصاً، ولي عمل مرسوم لا أملك أن أحيد عنه أو أجتهد في تغييره، ولي وقت محدود لا أستطيع له تقديماً ولا تأخيراً، ومن حولي أشياء كثيرة يباح فيها القول فأقول فيها ليلا ونهارا، وأشياء قليلة لا يباح فيها القول فأكون ممن يحسبهم أيقاظاً وهم رقود، وبينهما أمور مشتبهات أصمت فيها صمت أهل القبور.

ما كان أكثر ما يخدع الناس بهذا الصمت فيظنونه حكمة وحسن بصر في الأمور، وما هو من هذا ولا ذاك في شيء، ولكنه..

وحب العيش أعبد كل حر

وعلّم ساغباً أكل المَرار

أم ترى ذلك راجعاً إلى هذه التربية السهلة الضعيفة العاجزة التي ينشأ عليها كثير من الأبناء في بلادنا، وقد كنت منهم، يتربون كلولا على والديهم، يأكلون ويشربون ويلبسون ويتعلمون دون أن يكسبوا لقمة خبز أو جرعة ماء، إلى أن يحصلوا على الوظيفة لاهثين يتصببون عرقاً، أو تأتيهم وهم متكئون على الأرائك منقادة إليهم تجرّر أذيالها.

أم ماذا ترى يا صديقي؟! لقد عهدتك ذا نظر ثاقب وبصر في الأمور حديد، فأرجو أن ترى لي الرأي في هذه الظاهرة العجيبة التي ألمت، وهذه الصدمة التي عميت فيها الأسباب.

ولعلك تسألني من بعد هذا وتقول: أي شيء تحسّ وقد ألقيت الطباشير من بين أصابعك، وماذا تجد بعد أن قلبت لسبورة الفصل ظهر المجن، وماذا خلفت وراءك بعد هذا السفر الطويل الجاهد؟