ألا تثوبين إلى الرشد وترجعين عن هذا الضلال!! ألا تحمدين الله وتشكرينه على هذه النعمة الجديدة المرتجاة منذ أزمان طويلة!! ألا تحمدين الله - أيتها النفس - وتشكرين!!؟
وبهذه النجوى الصامتة وهذا الهمس الهامس، استطعت - يا صديقي - أن أعود بنفسي إلى دنياها، فأخذت تتنفس بسهولة، وتتحرك بنشاط، وتشعر بما يشعر به الأحياء من جوع وعطش، وشبع وريّ وحرّ وقرّ، وليل ونهار.
ولكنني - يا صديقي - لا أزال في حيرة من هذا الذي أصاب نفسي ودهاها، وهي التي كانت تسعى إلى هذا التقاعد وتتمناه، ولا يكاد يفتر لها شوق إلى لقياه، حتى إذا جاءها فجأة - وما هو بالفجاءة - اضطربت له وزلزلت زلزالا شديداً.
فإلى أي شيء تعزو ذلك، وبماذا تعلله؟!
أترى ما حلّ بي عائداً إلى ضعف اعتمادي على الله وقلة توكلي عليه؟ وإلى أن صلاتي وصيامي وسائر عباداتي إنما هي عادات قمت بها أول أمري تقليداً لوالديّ وطاعة لهما، ثم تمكنت فيّ بكرّ الزمن وطول الممارسة، دون أن يكون لها أقوى أثر وعميق صدى في تصرفاتي المعاشية وسلوكي في الحياة، حتى إذا ما ابتلاني ربي أو خيّل إليّ أنه قد ابتلاني نسيت نفسي حق الله وحق عبادة الله وحق أن تسلم أمرها إلى ربها وتقول في اطمئنان وثقة: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أم ترى ذلك راجعاً إلى سوء الطريقة التي بها تعلمت، لقد كانت طريقة تقوم على تلقين المعلومات تلقيناً وسردها سرداً، وما عليّ إلا أن أحفظ دروسي حفظاً أصم لا تعقل فيه ولا فهم، لا أشارك في أي جهد علمي، ولا أتحمّل أيّ مسؤولية في الكتساب أي معرفة، فتخرجت أتردد في إبداء الآراء، وأقلد غيري في قضايا العلم والأدب، وأكره أشد ما يكون الكره أن أستقل في أداء الأعمال.