نعم كأني بهم هكذا الآن، وهم الذين وصفهم صلوات الله عليه: بأنهم يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع، إنه لمسعد للنفس حقاً أن نتصور هذه المعركة مجسمة من حولنا نتفاعل معها، على أنه لا بد أولا أن ندير أبصارنا إلى السنة التي بين بدر وأحد، لنأخذ من الكثير قليلاً يتصل بموضوعنا، اشترك فيه المشركون واليهود على السواء، فكان بعد الهجرة وقبل بدر معاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم ويهود، من أهم بنودها: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ أي (لا يهلك) إلا نفسه وأهله، وأن بين المسلمين ويهود النصر على دهم يثرب، وأن بينهم النصر على من حارب أهل الصحيفة (لكن لما انتصر المسلمون في بدر، عادت إلى اليهود الخسة التي طُبعوا عليها، وأول من نكث منهم بنو قينقاع، وهم أقوى يهود في المدينة فقرروا اتخاذ عمل عسكري سريع يمحون به نصر بدر، وتلك هي النظرية العدوانية لليهود إلى يومنا هذا، بما تسميه إسرائيل بالحرب الوقائية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو النذير، أنذرهم أولا قبل أن يمتشق الحسام بمغبة نقضهم للعهد، ولكنهم بالصلف المعروف عنهم أجابوه: يا محمد، لا يغرنّك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وكأنها كانت فرصة له صلوات الله عليه ليريهم من هم الناس، وبدأ الأمر بالرد على قولهم هذا بنزول قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ، ومع هذا أسرعوا إلى سلاحهم وحصونهم للقتال، فهاجمهم النبي برجاله وضيق عليهم الخناق بحصار خانق، لم يتحملوه أكثر من خمسة عشر يوماً، واستسلم بنو قينقاع جميعاً، ثم عفا عنهم على أن يخرجوا من المدينة، فرحلوا إلى الشام، وهلكوا إثر وصولهم بقليل، بوباء سلطه الله عليهم، وهكذا عرفوا من هم الناس، ولكن طاغوتاً من طواغيتهم لم يكفه ما رأى