فأصول البيان أربعة، فإذا ضمت الاستعارة إلى المجاز المرسل للاشتراك في المجاز صارت ثلاثة.
ويظهر من هذا أن التشبيه أصل حقيقي من أصول هذا الفن؛ ألا ترى أن له مراتب متفاوتة في الوضوح، وأن فيه من النكت واللطائف البيانية ما لا يحصى.
وما يقال من أن المقصود الأصلي في التشبيهات هو المعاني الوضعية فقط ليس بشيء؛ فإن قولك:"وجه كالبدر"مثلا لا تريد به ما هو مفهومه وضعا، بل تريد أن ذلك الوجه في غاية الحسن ونهاية اللطافة، لكن إرادة هذا لا تنافي إرادة المفهوم الوضعي [٧] .
ومهما دار الأمر فإن التشبيه أصل من أصول البيان، ودعامة من دعائمه، ومقصد أصيل من مقاصده، وذلك لأمور أهمها:
أولها: أسبقيته في الوجود على الصور البيانية، فهو أقدم صور البيان؛ إذ هو مبني على ما تلمحه النفس من اشتراك بعض الأشياء في وصف خاص يربط بينها [٨] ؛ فتعمد إليه النفس بالفطرة حين يسوقها الداعي إليه، والباعث عليه؛ ومن ثمّ كان سرّ شيوعه وذيوعه في سائر الأنواع البشرية واللغات الإنسانية، فهو من الصور البيانية التي لا تختص بجنس ولا لغة؛ كيف لا وهو من الهبات الإنسانية والخصائص الفطرية.
ولقد عرفه العرب الأقدمون منذ لهجت ألسنتهم بفنون القول؛ فكان لأسلوب التشبيه الصدارة من الأساليب التي يستخدمها الفصحاء منهم في كلامهم في كل مكان وزمان، وفي هذا يقول أبو العباس المبرد المتوفى ٢٨٥هـ في كتابه الكامل:"والتشبيه جارٍ كثير في كلام العرب؛ حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد..".
ويقول:"والتشبيه من أكثر كلام الناس""والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له"[٩] .
كما يقول ابن وهب في كتابه نقد النثر:"وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وفيه تكون الفطنة والبراعة عندهم، وكلما كان المشبه (بالكسر) منهم في تشبيه ألطف كان بالشعر أعرف، وكلما كان بالمعنى أسبق كان بالحذق أليق.."[١٠] .