رابعا-يذهب سيد قطب [١١]-رحمه الله- إلى أن التاريخ ليس هو الحوادث وإنما هو تفسير هذه الحوادث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع شتائها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان.
وبذلك يستحيل التاريخ عملية استبطان وتجاوب في ضمائر الأشياء والأشخاص والأزمان والأحدث، ويتصل بناموس الكون ومدارج البشرية ويصبح كائنا حيا ومادة حياة".
هذه التعريفات التي ذكرناها مختلفة- كما قلنا- عمقا ودقة وشمولا، فتعريفا الكافيجي والسخاوي يتفقان في التركيز على ((التعيين والتوقيت)) أو على تعيين زمان ((الأحوال والوقائع)) وينفرد السخاوي في النص على شمول مفهوم التاريخ لما عدَّد من الأمور، أما ابن خلدون فيركز على ما يسمى في عصرنا بفلسفة التاريخ، حين ينص على الاهتمام بتعليل الكائنات ((الحوادث والموجودات"وتعرف أسباب وجودها وكيفيته، مما يفضي إلى معرفة نتائجها، ومعرفة علاقتها بالوقائع والأحوال التي تسبقها أو تلحقها أو تواكبها تأثرا وتأثيرا، بحيث يبدو التاريخ سلسلة منطقية من الوقائع والكائنات المترابطة بمبدأ الأسباب والمسببات... وهذا المعنى من ملاحظة واستنتاج ابن خلدون، وقد أدرك به أو كاد المعنى الحقيقي للتاريخ، وبذلك سبق علماء الغرب في هذا المضمار سبقا جديرا بالتقدير والإعجاب، واعتبر رائد علم الاجتماع، والبحث التاريخي العلمي...، وقد علق ((إيف لاكوست)) صاحب كتاب ((ابن خلدون واضع علم ومقرر استقلال [١٢] على هذه الناحية بقوله: "يستهل ابن خلدون مقدمته بمقطع رائع يشعر قراءه أنه أمام نفحة ستقود ديكارت [١٣] بعد ذلك بثلاثة قرون، وليس مثال ذلك السبق بنادر بين تراث الأدب العربي (الإسلامي) الذي خلفه لنا العصر الوسيط".