ولو نحن رحنا نتقصى مسارب التطور اللغوي وما استتبع من الانفصام القومي لرأينا ذلك القانون هو الحاكم الحاسم في تمايز الشعوب وتكوّن الأمم، وهل كان الناس في أصولهم البعيدة سوى أمة واحدة، ذات لغة واحدة، فجرفتها سيول التطور حتى صارت أمما ولغات تتعدى الإحصاء.. وأقرب الأمثلة على ذلك الأمم التي يلفها حزام الشرق الأقصى، ومثلها المتفرعات من الأصل اللاتيني في أوروبة حيث تمخضت الأمة فنتجت أمما لا يفهم بعضها عن بعض إلا بترجمان... ولا جرم أن العرب هم الأمة المتميزة التي استعصت على هذا القانون، فاحتفظت بوحدتها وخصائصها وتصوراتها على الرغم من عشرات العوامل التي اعترضتها وكانت حرية بتمزيق الأمم مهما بلغت مقوماتها من المناعة.. وإنما مرد ذلك الامتياز إلى القرآن الذي بحفظه لغة الأمة حفظ وجودها فاستعلت على الذوبان في غيرها من الأمم واللغات.. وهي ميزة لم تتح لِلاَّتين ولا لسواهم، إذ لم يكن لهم الكتاب المقدس الذي يجمع الأشتات على الوحدة، فتمزقت أمتهم أمما على الرغم من وحدة الدين وتقارب المصالح فيما بين أجزائها.. على حين قيض القرآن لهذه اللغة مجالا للنمو البشري ما كان ليتصور لولا أثره إذ اجتذبت لغته شعوبا، دخلت العروبة بمجرد اعتناقها الإسلام، فنسيت لغتها الأم على الزمن، مؤثرة عليها لغة الكتاب الذي آثرت هدايته ولغته على كل شيء آخر...