كان مستحيلا على تلك القبائل ذات الخصائص المستقلة سياسيا واقتصاديا ودينيا أيضا أن تحتفظ ببقائها في عزلة عن مسيرة الركب البشري، إذ يستحيل البقاء لأسباب هذه العزلة في عالم متغير، تتطور فيه كل يوم أساليب المواصلات وتضيق مساحات الأرض حتى تقترب كل مجموعة سكانية من الأخرى بحيث تصبح أخيرا وكأنها منطقة واحدة ضيقة لا سبيل معها لواحدة إلى مقاطعة الأخرى، فالصحاري التي صدت من قبل جحافل الإسكندر عن غزو الجزيرة لم تعد شيئا مذكورا أمام البوينغ وسفن الفضاء ومراكز الإرسال الفضائية، وعشرات الوسائل الأخرى المحطمة لحواجز الفرقة البشرية والعزلة القبلية... وهذا يعني أنه يستحيل في ظل مثل هذه التطورات أن تظل القبائل العربية محصنة ضد الذوبان في الأجناس الأكثر قوة.. لأن اللغة التي هي ملاك هذه الحصانة ستكون خاضعة لقوانين التغير، حتى تتركز عوامل الفصل ما بين حدود اللهجات بصورة نهائية، فتكون كل لهجة أمة متمايزة، كالذي حدث للغة السامية إذ أدى بها تنائي المنازل وتباعد الزمن إلى الانفصام فالتعدد، حتى كانت اللغة لغات، وحتى بات الناطق بالعبرية لا يفقه من العربية شيئا، وكذلك الأرامي والحبشي والبابلي وسائر الفروع المنحدرات من الأصل الواحد.