ولأمر عظيم شاءه الله تبارك وتعالى كان للعربية خصائصها المتفوقة التي تجعلها أصلح اللغات للاستجابة إلى حاجات الحضارة، فكأن السنن الكونية جمعاء كانت متجمعة تحت بصر أهلها الأولين، فلم يعجزهم أن يضعوا لكل ظاهرة رمزها المميز المرن، الذي يتابع تحرك الحياة فلا يتخلف عنه ولا يضيق به.. فبالنحت والاشتقاق والاصطلاح والتعريب والمجاز تمددت هذه اللغة من نطاقها الصحراوي المحدود إلى منطلق العالمية، فلم تعي بعلم، ولم تعجز بإزاء فن، ولم تستغلق أمام فلسفة وبذلك تركت بصماتها بارزة غالبة على مقومات الحضارة كلها، فلا علم يزهو به هذا العصر إلا وللعربية فيه الأثر الدال على جلالها، الذي يتضاءل بجانب ضوئه كل جلال، سواء في ذلك خطرات الوجدان وما عملته اليدان، أو ما تكشف للإنسان الحديث من أسرار الكون.
ولا مندوحة عن القطع بأن الذي وهب للعربية خصائص القابلية للنماء إنما هيأها بذلك لاحتواء المعاني الكلية التي ادخرها للرسالة الخاتمة، فكانت لها القوة الدافعة لاستيعابها كل معطيات الحضارة دون استثناء.