وقد اتضح لكل ذي عينين أن الإسلام هو الذي فجر طاقات العرب فانصرفوا إلى الاهتمام بالكون علوا وسفلا، وانطلقوا يبحثون ويكتشفون ويصححون مناهج السابقين، تحقيقا للوعد الإلهي بالاستخلاف في الأرض، وتوجيه الفكر البشري إلى الحق والانسجام مع قوانين الكون، الذي أنبأهم كتاب ربهم أنه مخلوق لمصلحتهم مسخرا لمنفعتهم.. لقيموا في أكنافه ملكوت العلم الذي ميز به بنو آدم.. ومن هنا جاء التحرك الجديد لمواهب الإنسان، إذ أخذت طريقها للانطلاق وراء الحقائق الكونية في منجاة من قيود الكهنوت الذي أقام نفسه وصيا على العقل البشري طوال حقب التاريخ السابق للبعثة النبوية، واستجابت لغة القرآن للدوافع الجديدة إذ برزت عبقريتها في الانتفاع بكل ما انتهى إليه البحث والكشف والاقتباس، فلم تضق ذرعا بأي مفهوم ولم تقصر يدا عن أي معلوم.. بل أمدت الفكر الإسلامي بكل ما أعانه على النماء في جو من التعاون المتكامل بين مختلف روافد الثقافة الدافقة، وهكذا تسنمت العربية عرش التفوق العالمي، حتى باتت لغة العلم والأدب، يشرف بمعرفتها أساطين الفكر على اختلاف مشاربهم وأديانهم وجنسياتهم.. وحتى راح القسس ينعون لغة اللاتين لما واجهوه من إقبال شباب أوروبة على العربية، وتنافسهم في إتقانها، إيمانا منهم بأنها لغة الجنس الممتاز.. تماما كما يفعل اليوم الكثيرون من الناشئين على فتات الغرب، إذ يرفعون عقائرهم بإكبار لغاته وإصغار لغتهم، حتى يكادوا ينكرون عليها كل فضيلة.. وإن براهين ذلك الماضي لماثلة في الكثير من صنائع الغرب وعلومه، شاهدة على هذه الحقيقة بالمصطلحات العربية الناطقة بعظمتها، المؤكدة أنها على أتم الاستعداد لاستئناف مسيرتها الصاعدة في خدمة الحضارة، إذا وجدت من أبنائها العناية التي تشق لها سبيل النهوض.