وكانت الآيات تتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم تقريعا وتأنيبا لهم حتى هاج هائجهم.. فخرجت أضغانهم، وطاشت ألبابهم، وراحوا يتفننون له في طرق الإيذاء ويعرضون عليه مغريات الدنيا ليكف عن دعوته ويتنازل عن رسالته، وما قدروا أن دنياهم كلها ومتاعهم جميعه إنما هو تحت قدمه صلى الله عليه وسلم, وأنّ قرة عينه وراحة نفسه أن يعلي كلمة الحق، وأن يغسل أدران الإنسانية، وأن يبشّر بالحسنى, وأن يدعم الفضيلة, وأن يؤدي الرسالة كما أمره الله.
لهذا أخذ يستقبل المحن ويتلقى الإيذاء عليا في نفسه عزيزا في قومه، ولما نزل عليه قول الله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[٢] امتثل لأمر الله وصعد على الصفا فجعل ينادي، يا بني فهر، يا بني عدي, فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر الخبر, وكان فيهم أبو لهب بن عبد المطلب, فقال عليه الصلاة والسلام:"أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي؟ قالوا: نعم ما جرّبنا عليك كذبا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد, فقال أبو لهب: تبّاً لك, ألهذا جمعتنا, فأنزل الله في شأنه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[٣] , ثم التفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عشيرته الأقربين فقال: "إن الرائد لا يكذّب أهله، وإني لو كذبت على الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون, ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءاً، وإنها لجنة أبداً أو لنار أبداً".
ثم توالى الإيذاء على النبي عليه الصلاة والسلام، فتلقاه هازئاً بخصمه، محتقراً لصنيعه، مستعذباً العذاب في سبيل دعوته، إيماناً بوعد الله الذي يقول:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .