ولنعد إلى شاعرنا الملهم أبي تمام كيف حيّا صاحبه؟ وكيف تحدّث عني؟ إنه قال له: إنّ قلمه قد علا في منزلته حتى لا يستطيع أن يصل إليه كاتب, وأنه لبراعته إذا تحرّك على الورق متحدثا عن أمر، أصاب خفيّة وجليّة, وأنه لولا ما يكتبه في خلواته, وما يعطيه لقلمه من أسرار بلاغته, لما كان للمُلك تلك العزة والعظمة, التي تقام لها تلك الاحتفالات والمهرجانات, ثم يقول له: على أنَّ قلمك هذا إن شاءت عبارته بشدتها ونفاذها جعلت حبره سُمّاً قاتلا, وإن أرادت أساليبه ببراعتها ورقتها أحالت حبره عسلا مصفى, وإنّ قطرات الحبر التي تسيل على سنَّة يحسبها الغِرُّ الغافل طلا ورذاذا, ولكنها تفعل في الشرق والغرب ما لا يفعله المطر الغزير من الخير الكثير.
وإنّ هذا القلم إذا حملته أصابعك لتكتب به كان أفصح من دبّجَ وأنتج, وإن تخلّت عنه أصابعك كان أخرس لا يهمس, ولكنّه إذا احتضنته أناملك, واستوى بين أطرافها, وأخذ يدعو إلى فمه فرائد المعاني, أقبلت إليه روافد الفكر, الملأى بالمعارف واللطائف, وتفجّرت ينابيع البيان الحافلة بالروائع والعظائم. وعند ذلك تتجه الحرب كما يريد, وتنهزم الجيوش الجرّارة أمام همسة منه آمرة قاهرة.
وإذا أمدّه الفكر النابه, وسعت إليه العبارات تترى, وهي تتبارى في حسنها ورونقها, فأمتلأت بها الأوراق من أعلاها إلى أدناها, وقد بدأت الأفكار كالتيار, لا تنقطع ولا تمتنع, وهو يتحرك في مد زاخر نمامر, هنا تبدو عظمة شأنه, وهو يبدو نحيلا ضئيلا, ولكن أثره يطيح بالسمان العظام, إذا تحرك في حلبة الطعان والبيان.. أخذتني النشوة والعزة وأنا أنثر لك حديث أبي تمام عن القلم. يعني حديثه عني. وأحب أن تقرأ أنت يا صديقي شعره يقول:
تُصابُ من الأمر الكلىَ والمفاصل [٧]
لك القلمُ الأعلى الذي بشباتهِ
لما احتفلت للملك تلك المحافل [٨]
له الخلواتُ اللاء لولا نجيُّها