وقد كان لكل قبيلة في الجاهلية شاعراً أو أكثر وخطيب تعز بظهورهم، وتشرف بنبوغهم، وكان حرصهم على الشعر أكثر من النثر، لسهولة حفظه، ودوامه وبقائه، وهم قوم تغلب عليهم الأمية لا يكتبون، ولا يقرؤون من كتاب، ومن ثم كان اتجاههم إلى الشعر الغنائي أو الوجداني فهاموا به، وأغرموا بحبه، يعزفون على قيثارته أشجى الألحان, ويشدون أجمل الأنغام، وينشدون أعذب الأشعار، ثم يعقدون أسواقهم الأدبية التي من أكبرها وأشهرها (عكاظ) الواقع شرقي مكة بين نخلة والطائف، وكانت هذه الأسواق تمثل منتديات النقد ومحافلة في هذه الفترة، فيعرضون فيها نتاجهم الشعري والأدبي على أرباب هذه الصناعة الشعرية والأدبية، طلباً لتقويم ما يعرضون، وتحصيلاً للسبق فيما يتنافسون, وعندئذ تبدو مواطن الجودة منه، وتظهر مواضع الرداءة فيه، وهذا التقويم لتلكم الأساليب الشعرية والأدبية هو ما عُرِف بـ (النقد الأدبي) أو (نقد الأدب)[٤] ، وقد مارسه الإنسان العربي بفطرته وذوقه، وطبيعته وإحساسه، وميله ومزاجه، فاستحسن أو استهجن ما يراه دون تحليل أو تعليل يواكب تذوقه الجمالي، مما جعل هذا النقد الجاهلي ينشأ ذاتيا محدوداً في نطاق كل نص على حده إلى الحد الذي يستطيع، على نحو هذه اللمحات النقدية التي ذكرتها أمهات الكتب المعنية.
ولعل أقدم ما حكاه الرواة في إطار ما عُرف من نقد لدى الجاهليين هذه الرواية - على القول بوقوعها - التي كان مسرحها (حِمَى بني طيء) حين كان يقيم فيهم أمير الشعراء الجاهليين امرؤ القيس الذي تزوج هناك من (أم جُنْدب) فدخل عليه يوما علقمة بن عَبَدة التميمي المعروف بـ (علقمة الفحل) ، وهو قابع في خيمته، ووراءه أم جُنْدب وهي بنت عم علقمة الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك! وقال علقمة: بل أنا أشعر منك! فقال: قُلْ!، وأقول! ثم تحاكما إلى أمّ جندب، فقال امرؤ القيس قصيدته: