فقال طرفة: استنوق الجمل، ذلك أن الصَّيْعَرِيَّةُ سمة في عُنق الناقة، فجعلها الشاعر صفة للبعير، واعتبرها طرفة سقطة لغوية من الشاعر، فكانت كلمته الموجزة الوافية معبرة عن إحساسه في سَنٍّ مبكرة بفقه المعاني ووعيها.
على أنه قد وجد نوع من النقد نتيجة ظهور (المعلقات) أو القصائد الطوال، وهو ما عُرِف الآن بـ (النقد الانتخابي) , وطبيعي أن خط النثر الجاهلي الذي عثر عليه قليل، وكذلك نقده، يبدو في بعض توجيهات أكثم بن صيفي خطيب الجاهليين المصقع يقول فيها لكتابه إذا كاتب ملوك الجاهلية:"افصلوا بين كل معنى منْقَضٍ, وصلوا إذا كان الكلامُ معجونا بعضه ببعض "[٩] .
أيها الاخوة الأبناء:
ومن خلال هذا العرض نستطيع أن نحدّد ملامح النقد الجاهلي ومعالمه فيما يأتي:
١- أنّ هذا النقد أصيل في نشأته، وقد اعتمد هذا النقد على الذوق والإحساس، فبدا ذاتيا لا تذكر فيه علة، ولا يوضح معه سبب، وإن كنا قد رأينا بعض النظرات الموضوعية المجملة الواضحة، كما في حكومة النابغة على حسان.
٢- أنّ هذا النقد الجاهلي كان محصّلة جهد بذله الشعراء النقدة، بل إنّ هذا النقد كان مقصورا على الشعراء المقتدرين، ذلك أنّ درايتهم وخبرتهم بقول الشعر- الذي تعاطوا فنونه وتراكيبه وعرفوا أسراره وأساليبه- قد جعلتهم ينفردون بهذا الجهد النقدي دون غيرهم، وقُدِّر لجماعة الشعراء آنذاك أن تختص به، يستوي في ذلك الفتى والشاب، والشيخ الكبير, ولا نستثني إلا (أم جندب) التي لا أخا لها شاعرة، وعلى ذلك فإنّ تلك الأحكام الذاتية التي جاءت على لسان هؤلاء النقاد على إجمالها هي صادرة عن ذوي بصر ودرية في صناعة الشعر وقوله، مما جعل هذا النقد صادقا لا يخلو من موضوعية.