٥- أن هذا النقد مع ذاتيته وقلته فإنه أصدق صورة للبيئة العربية في جاهليتها، حيث ظلت الصراعات الدموية تمزِّقها، والبداوة تحكمها، والأميّة تستبّد بها, والنظرة الجزئية سبيلها إلى فهم الأمور، والارتجال في الأحكام مسلكها، فلم تتوفَّرُ لها عوامل الرّقي الحضاري والفكري، ولم تتهيأ لها وسائل تحقيق المنهجية العلمية التي تعتمد على الدراسة المتأنية داخل إطار الشمولية المحيطة, وبدهي أنّ الدرس والتحليل في العمل النقدي يتطلب درجة من درجات الرقي الفكري تأتي بعد مجرد الاستجابة الذوقية.
وإن كانت الأذواق العربية قد نعمت بجو الحرية والطلاقة، وتمتّعت بروح البساطة التي تميزت بها هذه البيئة، بيد أن الظروف الأخرى التي عاشتها من وثنية متخلفة رانت على قلوبهم، واستولت على عقولهم، ومن عصبية قبلية كانت تحكم مجتمعهم، وتوجه حركتهم قد سَدَّتْ هذه الظروف عليهم منافذ التفكير، فكان جهدهم الذي رأيت في مجال النقد الأدبي..
أيها الاخوة – أيها الأبناء:
إنّ تلك البيئة العربية الغارقة في جاهليتها, السابحة في وثنيتها، المفتونة بشعرائها وشاعريتها, يراد لهذه البيئة أن تكون طليعة التحرُّك بدعوة الإسلام دعوة خالصة كتوحيد الله تعالى، والإيمان به، والطاعة له, والقيام بعبادته, وأن يكون الداعي لها عربيا من أبناء هذه البيئة، إعمالا لسنة الله في إرسال الرسل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فكان بزوغ فجر الإسلام، وسطوع شمس هدايته، ونزول القرآن الكريم على قلب الرسول الأمين، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وهو حجة الله المعجزة في الأولين والآخرين حقاً أنها لمهمة شاقة، ومطلب عسير، فمن أين تكون البداية؟ ومع مَنْ تكون؟.