إن هذه الجهود الممتازة من الرسول والخلفاء الراشدين كانت لها آثارها البعيدة في توجيه الفن الأدبي ونقده، والاتجاه به في مساره الإسلامي، بعيدا عن المنعطفات والدروب التي عرفتها الجاهلية، ولذلك رأينا الفاروق عمر يتصدى للمنحرفين الهجَّائين، مستعينا بحسان بن ثابت في تقويم أشعرهم، مع حذقه الشعر وبصره بفنونه، لكنه أراد أن تتاح للعدالة ساحتها, وأن يتولّى القضاء فيها مَنْ هو أهل في هذا الفنِّ، فمن ذلك هاتان الواقعتان اللتان ذكرتا في أمهات الكتب النقدية والأدبية..
أما الواقعة الأولى فمع الحطيئة (جرْول بن أوس) ، وكان رقيق الإسلام، لئيم الطبع، سيّئ الخلق؛ قد آواه الزِّبرْقان بن بدر، فلم يحمد جواره، وانقلب عليه، ثم تحوَّل عنه إلى بَغيض بن عامر من رؤساء بني تميم الذين أدركوا الإسلام، فأكرم جواره, فقال الحطيئة يهجو الزبرقان، ويمدح بغيضا:
ذاَ حَاجَة عَاش في مُسْتَوْعر شَاسِ [٢٩]
مَا كَان ذَنْبُ بَغيض أنْ أَرى رجُلاً
وغادرُوه مُقيماً بين أَرْمَاسِ
جَاراً لِقَوْمٍ أَطَالُوا هُونَ مَنْزله
وَجَرَّحُوهُ بأنياب وأضراسِ
مَلُّوا قراه، وهَرَّتْهُ كِلاَبُهُمُ
واقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتٌ الطَّاعِمُ الكَاسِي
دَع المكَارِمَ لاتَرْحلْ لبغْيتَها
وأنشده آخر الأبيات:
لا يَذْهَبُ العُرْفُ بَين الله والنَّاس
مَنْ يَغْفَلِ الخَيرةَ لاَ يَعْدِمْ جَوَارِيه
فقال له عمر: ما أعلمه هَجَاكَ، أما تَرضى أن تكون طاعما كاسيا؟! قال: إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا، ثم أرسل عمر إلى حسان بن ثابت، فسأله عن ذلك، فقال: لم يهجُه، ولكن سَلَحَ عليه!! فحبسه عمر، وقال: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين فقال: - وهو محبوس يستعطف عمر-:
حُمر الحواصل لا مَاءُ ولا شجرُ؟
ماذا أقول لأفراخ بذي مَرَخ
فاغْفِرْ عَليْكَ سَلامُ الله يا عُمَرُ