أَلقَيْتَ كَاسِبَهُم في قَعْرِ مُظْلمة
فَرَقَّ له قلب عمر وخلّى سبيله، وأخَذ عليه ألاَّ يهجو أحدا من المسلمين [٣٠] .
وأما الواقعة الثانية فقد كانت مع النجاشي الحارثي (قيس بن عمرو بن مالك) ، وكان فاسقاً فاحشا رقيق الإسلام أيضا، فهجا بني العَجْلان، فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ما قال فيكم؟ فأنشدوه:
فَعَادَى بني العجْلانِ رَهط ابْنَ مقبل
إذا اللهُ عادى أهل لُوْمٍ وَرِقَّةٍ
فقال عمر! إنما دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وإن كان ظالما لم يستَجب له، قالوا: وقد قال أيضاً:
ولا يَظْلِمُون النَّاس حبَّةَ خَرْدلِ
قُبيِّلةٌ لا يَغْدِرُون بِذِمَّةٍ
فقال عمر: ليت آل الخطَّاب هكذا قالوا: وقد قال أيضاً:
إذا صدر الورّاد عن كل منهل
وَلا يردون الماء إلا عشيّة
فقال عمر: ذلك أقلّ للّكاك أي (الزّحام) قالوا: وقد قال أيضاً:
وتأكل من كعبٍ وعوْفٍ ونهشَل
تعاف الكلاب الضّاريات لحومهم
فقال عمر: أجَنَّ القوم موتاهم، فلم يُضيِّعوهم! قالوا: وقد قال:
خُذِ القَعْبَ [٣١] ، واحلبْ أيها العَبدُ واعْجَ
وما سُمِّي العجْلانَ إلا لِقِيلهمْ
فقال عمر: خير القوم خادمهم (وكلنا عبيد الله!) ، ثم بعث إلى حسان والحطيئة، وكان محبوساً عنده فسألهما, فقال حسان مثل قوله السابق في شعر الحطيئة, فهدد عمر النجاشي وقال له: "إن عُدتَ قَطَعْتُ لِسَانَكَ".
وفي هاتين الحادثتين يبدو عمر كأنه ليس من الشعر في شيء، ونحن نعلم مدى فهمه ووعيه بفنونه، ولكنه يظهر هنا على خلاف أمره، ولعل موقفه كخليفة، وموقعه كحاكم جعله يستبين الأمر من ذوي الخبرة مشورتهم، فيصدر حكمه الذي لا يقبل نقضاً ولا تجريحا، ومع هذا فإنّ الواقعة الثانية لم تخل من نظرة نقدية لعمر حين تمنى لآل الخطاب هذه الصفات التي أوردها النجاشي في قوله: