وبعد أن يؤكد الجرجاني على هذا الجانب في أكثر من موضع من "دلائل الإعجاز" يصل بقارئه إلى هدفه الأساسي وهو: إثبات حقيقة عجز العرب عن معارضة القرآن الكريم، وانقطاعهم دونه بعد أن تحداهم على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة من سوره..فعجزوا عن ذلك كله..يقول:
"إنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سمعوا القرآن، وحين تحدوا إلى معارضته، سمعوا كلاما لم يسمعوا قط مثله، وأنهم قد رازوا [٧] أنفسهم، فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه، أو يدانيه، أو يقع قريبا منه، لكان مجالا أن يدعوا معارضته وقد تحدوا وقرعوا فيه، وطولبوا فيه، وأن يتعرضوا لشبا الأسنة، ويقتحموا موارد الموت، فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبرونا عنهم عماذا عجزوا؟ .. أعن معاني من دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول؟ .. أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإذا قلتم عن الألفاظ.. فماذا أعجزهم من اللفظ؟ أم ما بهرهم منه؟
فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه، ومقاطعها ومجاري ألفاظها ومواقعها.. وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة، وتنبيه وإعلام وتذكير، وترغيب وترهيب، ومع كل حجة، وبرهان، وصفة وتبيان، وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعشرا عشرا، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة يَنْبُوا بها مكانها، ولفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح مكانا أو أشبه، أو أحْرى وأخلق.. بل وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور نظاما والتئاما وإتقانا وإحكاما، لم يدع في نفس بليغ منهم، ولو حكّ بيافوخة السماء موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أن تدعى وتقول، وخلدت القروم فلم تملك أن تصول [٨] .