كان هذا موقف العرب عند بدء الدعوة، ولكن بعد أن اتّسعت الفتوح وانتشر الإسلام واختلط العرب بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها شُغل الناس بالقرآن الكريم؛ يتدارسونه ويوضحون معانيه ويبحثون عن ألفاظه وتراكيبه وما فيه من علوم وفنون، فأضحت آياته ميدانا لدراسات مختلفة، خاصة البلاغيّة منها؛ يحاولون بذلك بيان الوجه الذي من أجله عجز الناس عن محاكاته أو الإتيان بأقصر سورة منه، وكان لانقسام المسلمين إلى فرق وطوائف أثر بالغ في هذه الدراسات التي تدور حول القرآن وما فيه من معان وأغراض وأسرار، وأقدم ما ظهر من الكتب في هذا الشأن هو كتاب ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة ٢٠٨هـ، ويقول أبو عبيدة عن سبب تأليفه هذا الكتاب: إن الفضل بن الربيع وزير الرشيد ثم الأمين استقدمه من البصرة، فلما بلغ مجلسه ببغداد وكان به إبراهيم بن إسماعيل الكاتب سأله الكاتب عن معنى قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} وإنما يقع الوعد والوعيد بما عرف مثله وهذا لم يعرف؟ فقال له أبو عبيدة: إنما كلّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم ويفزعهم أوعدوا به؛ فاستحسن الحاضرون هذا الجواب.
ومنذ ذلك الحين عزم أبو عبيدة على أن يخرج كتابا يبين فيه ما يشتبه على الناس، فلما رجع إلى البصرة أخذ في تأليف كتابه هذا ((مجاز القرآن)) وهو لا يريد بكلمة (مجاز) ما يقابل الحقيقة كما هو اصطلاح المتأخرين، وإنما يريد الدلالة الدقيقة لصيغ التعبير القرآنية المختلفة، وقد ظهر مراده هذا في السطور الأولى من الكتاب.